لم نتوقّف يومًا عن تأمل السماء مدهوشين بروعة الظواهر التي تجري في مسرحها، وما يُزيّنها من كواكبٍ ونجومٍ مختلفة، ثمّ ظهر شيءٌ جديد، مضيء كالنجوم، لكنه يجرّ وراءه ذيلًا طويلًا، يلمع ثم يختفي بسرعةٍ كما ظهر.
اليوم نحن نعرف الكثير عن تلك الضيوف الكونيّة (المذنبات) ونرحّب بقدومها في سمائنا، حتى دفع ذلك بعض العلماء أن يقرروا زيارتها أيضًا، لكن ما أُبهرنا به كان بالنسبة للفلكيين القدامى غريبًا فعلًا.
فلم يكن لدى الفلكيّين القدامى أي معلومات عن المذنبات، فالمذنبات نادرًا ما تُرى أكثر من مرةً في عمر الإنسان، وهذا أكسبها صفة الغموض رغم فهمهم البدائي للأجسام السماوية وطريقة تصرفها.
وككل شيء في السماء الزرقاء، تمّ اعتبارها أحيانًا جالبة تعس وسوء حظ، وأحيانًا أخرى جالبةً للحظ السعيد.
يعتقد بعض علماء الآثار أن الرسوم الموجودة في عدّة أماكن في أنحاء العالم، والعائدة للحقبة ما قبل التاريخيّة قد تمثّل رؤية أسلافنا للمذنبات. ففي أسكتلندا توجد رسوم للمذنبات تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، وكذلك في إيطاليا، كما توجد رسوم للمذنبات تعود للعصر الحديدي.
أطلق القدماء على المذنبات «النجوم ذات الشعر» بسبب الذيل المنبعث منها. ونحن في الحقيقة مازلنا نستخدم ذلك المصطلح حتى الآن، فالسحابة الغازيّة المنبعثة من المذنّب تُسمّى Coma، وهي الترجمة اللاتينيّة لكلمة «شعر» في اللغة الإغريقيّة. ومن كلمة Coma، جاءت كلمة «Comet» وتعني المذنب.
لكن ما هي المذنبات؟
كرات الفضاء الثلجيّة، كما تُشَبّه هذه الأجسام الجليديّة النافثة للغبار والغاز، لكنّ الأبحاث الأخيرة دعت بعض العلماء لتسميتها بـ«كرات الغبار» الثلجيّة. وتحوي المذنبّات أحادي أكسيد الكربون، الغاز، الجليد، الأمونيا، الميثان وغيرها.
يُعتقد أن المذنبات صُنعت من قبل المواد الأوليّة لمجموعتنا الشمسيّة -أي ممّا يُقارب 4.6 مليار سنة – فعندما تشكّلت الشمس قامت بنفث المواد الأخفّ وزنًا (الغازات، الغبار) إلى الفضاء. ثم تجمعت هذه المواد (الغازات بشكل خاص) وتكثّفت لتشكل الكواكب الخارجيّة (المشتري، زحل، أورانوس، نبتون) وبعضها الآخر بقي في مدار بعيد عن الشمس في منطقتين اثنتين:
– سحابة أورط Oort Cloud: مساحة كرويّة الشكل على بعد 50000 وحدة فلكيّة عن الشمس. سُميت باسم الفلكيّ الهولنديّ يان أورط Jan Oort الذي اقترح وجودها.
– حزام كايبر Kuiper Belt: منطقة في مستوى المجموعة الشمسية خارج مدار بلوتو.
* الوحدة الفلكيّة: هي متوسط المسافة بين الأرض والشمس. وتساوي 149.597.870,691 كيلومتر (بدقة ± 3 متر).
مسار المذنب
عادة ما تكون المدّة اللازمة لمدار المذنب أقلّ من مئتي عام، مثل مذنب هالي Halley’s comet أو مذنبات طويلة المدار مثل هال-بوب Hale-Bopp comet. وعند اقتراب المذنب من الشمس فإنّ الجليد يبدأ بالتحوّل من الشكل الصلب إلى الشكل الغازي، يشابه ذالك الوضع تشكّل الضباب. وعندما يتبخر الجليد المشكّل للمذنب تتطاير ذرات الغاز والغبار بعيدًا عن الشمس مشكلةً ذيل المذنّب.
أجزاء المذنّب
تزداد حرارة المذنّب باقترابه من الشمس، وخلال ذلك يمكننا ملاحظة أجزاء متباينة:
1- النواة Nucleus
2- الذؤابة Coma
3- الغلاف الهيدروجيني Hydrogen Envelope
4- بالإضافة لذيليّ المذنب: ذيل أيونيّ Ion Tail، والذيل الغباريّ Dust Tail.
(1) النواة
هي المكون الأساسي في المذنّب، الجزء الصلب الذي يتكوّن من الجليد والغبار المغطّى بجزيئات داكنة، وتقيس النواة بين كيلومتر إلى عشرة كيلومترات قطرًا، لكن قد تصل إلى مئة كيلومتر، وقد يكون مركز النواة حجريّ البنيّة.
(2) الذؤابة
هي عبارة عن هالة من الغاز المتبخّر ( غبار الماء، أمونيا، أكسيد الكربون) والغبار الذي يحيط بالنواة. تتولّد الذؤابة عندما تزداد حرارة المذنب وهي تكبر حجم النواة بأكثر من 1000 مرةٍ أحيانًا، وربما تصل لحجم المشتري أو زحل (100,000 كيلومتر). تسمّى النواة والذؤابة معًا «رأس المذنّب».
تبدأ الذؤابة بالتشكّل عندما يصبح المذنب على بعد 5 وحدات فلكيّة عن الشمس، وتختفي عندما تبتعد أكثر من ذلك.
(3) الغلاف الهيدروجيني
أما ما حول الذؤابة، فتوجد طبقة غير مرئيّة من الهيدروجين تسمّى «الغلاف الهدروجينيّ»، ويُعتقد أنّ هذا الهيدروجين يأتي من جزيئات الماء. ولهذا الغلاف شكل غير منتظم، وذلك بسبب تأثّره بالرياح الشمسيّة، كما أنّ حجم هذا الغلاف الهيدروجيني يزداد حجمًا بازدياد قرب المذنّب من الشمس.
(4) ذيول المذنّب
في الجانب المبتعد عن الشمس نرى الذيل الغباريّ، والذي يتألف من جزيئات غبار متناهيّة في الصغر، تبخّرت من النواة وتُدفع بعيدًا بواسطة ضغط أشعة الشمس.
هذا الجزء هو الأسهل للملاحظة لأنّه يعكس ضوء الشمس ولأنّه يمتدّ بطول ملايين الكيلومترات. غالبًا ما يتميّز هذا الذيل بشكله المنحني، ويمكننا تشبيه ذلك بانحناء الماء عند خروجه فوهة الصنبور بشكل منحنٍ.
الذيل الآخر الذي تمتلكه بعض المذنّبات يسمّى «الذيل الأيونيّ»، وأحيانًا يُطلق عليه اسم الذيل الغازيّ أو البلازميّ. يتكوّن هذا الذيل من جزيئات غاز- بخار الماء، أكسيد الكربون، نتروجين-مشحونة كهربائيًّا ومدفوعةٍ بعيدًا عن النواة بسبب الرياح الشمسيّة. يختفي الذيل الغازيّ أحيانًا ثمّ يعود للظهور عندما يصبح المذنّب في نقطة عكس اتجاه الحقل المغناطيسيّ للشمس.
ما الفرق بين الذيلين إذًا؟
بسبب أشعة الشمس الفوق البنفسجيّة، يتم تأيّن جزيئات الغاز المنطلقة من المذنّب، أي خسارة إلكترونات منها، وبالتالي تصبح مشحونةً كهربائيًّا. بسبب حملها لهذه الشحنة، فإنّ هذه الجزئيات تتأثر بالحقول المغناطيسيّة بشكل كبير. وعندما تصدم الريّاح الشمسيّة – تتدفقّ من الجزيئات المشحونة خارج من الشمس حاملةً حقلًا مغناطيسيًّا معها- جزيئات الغاز المأيّنة، فإنها تأخذ معها بعض هذه الجزيئات وتتجه بنفس الاتجاه التي انطلقت منه، بعيدًا عن الشمس، مشكّلة بذلك الذيل الأيونيّ.
في المقابل، فإنّ الغبار المنطلق من المذنب يتأثر بشكلٍ كبير بطاقة ضوء الشمس، وليس الرياح الشمسيّة. فيطبّق الضوء المنبعث من الشمس ضغطًا صغيرًا لكن مؤثرًا على هذه الجزيئات، ويؤدي لدفعها بعيدًا عن الشمس أيضًا، لكن لصغر الضغط المطبّق، فإنّ هذا الذيل يتحرّك بشكل بطيء بعكس الأيونيّ.
يمكننا تمييز الذيلين عن بعضها، وذلك يظهر في مذنب هال-بوب، حيث نرى الذيل الغباريّ بلونٍ أبيضَ أو أصفر، بسبب أشعة الشمس المنعكسة، بينما يظهر الذيل الأيونيّ بلون أخضر أو أزرق، بحسب الغازات المكونة له، فأكسيد الكربون يبثّ ضوءًا أزرق، بينما يصدر عن جزيئات الكربون لون أخضر.
يمكن أن يمتّد ذيل المذنب من عشرة لملايين من الكيلومترات، ولكن رغم طولها فإنّ هذه الأذيل قليلة الكثافة، والهواء الذي نتنفسه أكثر كثافة منها بملايين مليارات المرات.
في عام 1910 مرّت الأرض خلال ذيل مذنّب هالي، مما سبب الفزع في أوساط العامّة، ذلك لأن السيانوجين، الغاز السام، موجود في هذا الذيل! لكن لم يحصل شيء فعلًا، لأنّ كثافة هذا الذيل ومكوناته شديدة الصغر.
الذيل المعاكس Antitail
هو انبعاث يخرج من ذؤابة المذنّب ويتجه تحو الشمس، وبالتالي يعاكس اتجاه الذيول الأخرى، الأيونيّ والغباريّ.
يتشكّل هذا الذيل من جزيئات غبار كبيرة أقل تأثرًا بضغط الأشعة الشمسيّة وتبقى في مستوى مدار المذنّب ثم تشكل قرصًا على طول مدار المذنب بسبب سرعة إطلاقها من سطح المذنّب. عند مرور الأرض في مستوى مدار المذنّب، يظهر هذا القرص بشكل جانبيّ، ثم يظهر كانبعاث من المذنب. إذًا يمكن رؤية هذا الذيل المعاكس على الأرض لفترة قصيرة، عند مرور الأرض في مستوى مدار المذنّب.
ولا تكون معظم المذنّبات ذيلًا معاكسًا، لكن من تلك التي أظهرته المذنّب أريند-رولاند Arend-Roland في 1957، هال-بوب Hale-Bopp في 1997 وبانستارس PANSTARRS في 2013.
هطول الشهب
تترك المذنبات خلفها قشورًا متساقطةً منها مؤديّة لحصول الهطولات الشهابيّة على الأرض. على سبيل المثال، فإنّ هطول Perseid الشهابي الذي يحصل كلّ سنة بين 9-13 أغسطس سببه مرور الأرض في مدار مذنب Swift-Tuttle، أما أضخم هطول شهابيّ فهو هطول Leonids في عام 1833، بمعدل يفوق مئة ألف شهبٍ في الساعة، وهو مرتبطٌ بـالمذنب Temple-Tuttle وتكون ذروة هذا الهطول في الثامن عشر من نوفمبر.
كيف تحصل المذنبات على أسمائها؟
تُسمّى المذنبات عمومًا باسم مكتشفها، سواء كان شخصًا أو سفينة فضائيّة. وتمّ وضع هذه الإرشادات الخاصة باتحاد الفلك الدوليّ في القرن الماضي فحسب، أي ما زلنا مبتدئين فعليًّا. على سبيل المثال، المذنّب شوميكر-ليفي9، سُميّ بذلك الاسم لأنّه كان المذنب التاسع قصير المدار، وتمّ اكتشافه من قبل إيجوجين وكارولين شوميكير Eugene and Carolyn Shoemaker مع ديفيد ليفي David Levy. وبعض المذنبات تُسمى باسم المركبات التي اكتشتف وجودها، مثل LINEAR، SOHO و WISE.
WISE: Wide-field Infrared Survey Explorer
SOHO: Solar and Heliospheric Observatory
LINEAR: Lincoln Near-Earth Asteroid Research
كيف نصنّف المذنّبات؟
يتم تصنيف المذنبات تبعًا لمدارها حول الشمس إلى:
1- المذنبات قصيرة الدورة: والتي تستغرق دورتها حول الشمس أقل من 200 عام. تدور هذه المذنبات حول الشمس في نفس المستوى الذي تدور فيه الكواكب حول الشمس وبنفس الاتجاه أيضًا.
2- المذنبات طويلة الدورة: وهي التي تستغرق دورتها أكثر من قرنين حول الشمس. تكون مدارات هذه المذنبات مائلةً ومتعرّجة.
3- المذنبات أحاديّة الظهور: تكون مداراتها بشكل «قطعٍ مكافئ»، وهي غير مرتبطة بجاذبيّة الشمس، أي أنّ مدارها يأخذها إلى خارج المجموعة الشمسيّة.
المذنّبات أيضًا تتحطم
عندما تمرّ المذنبات في الجزء الداخلي من مجموعتنا الشمسيّة فإنّ جاذبيّة الأخ الكبير، المشتري، تستطيع أن تحطّم بعضها إلى أجزاء متناثرة.
حطّمت جاذبيّة المشتري المذنب شوميكير-ليفي9 Shoemaker-Levy إلى 20 جزءًا، كلّ منها ارتطم بالمشتري، وكانت تلك من أكثر الحوادث الكواكبيّة المذهلة في التاريخ.
تسافر معظم المذنبّات على مسافةٍ آمنة من الشمس، فمذنب هالي الشهير في أكثر نقطة من مداره قربَا من الشمس يكون على بعد 89 مليون كيلومترًا منها، لكن بعد المذنّبات التي تُدعى sungrazers تتحطم داخل الشمس أو تصل إلى مسافة قريبةً جدًا من نجمنا الكبير، لتتبخر قبل الوصول إليه. كما حصل مع المذنب LINEAR، فقد تحطّم إلى قطعٍ صغيرةٍ بواسطة جاذبيّة الشمس عندما ارتطم بها.
على المذنّب
دراسة المذنّبات من الأرض صعبةٌ جدًا، فالذؤابة تحجب النواة مما يجعل رؤيتها بشكلٍ مباشر أمرًا مستحيلًا.
المشكلة إذًا هي دراستها «من الأرض»، لكن ماذا لو أرسلنا تلسكوبًا إلى الفضاء؟ قمنا بذلك لأول مرة في الثمانينات من القرن الماضي، في المرة الأخيرة التي جاء بها المذنّب هالي. تُمّ إرسال سفينة فضائيّة للمرور بجانب المذنب، واستطاعت المهمة السوفيتيّة Vega 1 التقاط صورٍ للنواة. أظهرت الصور منخفضة الدقّة كتلةً سوداءَ تحمل نقطتين مضيئتين، تبين لاحقًا أنّها مصادر انبعاث نفثات الغاز من المذنب.
تمّ استخدام الصور لتحديد مكان النواة، وبعد عدة أيام قام مسبار الفضاء الأوربي Giotto بالمرور بجانب النواة والتقاط صور على مسافة قريبةٍ جدًا، 600 كيلومترٍ فقط!
أوضحت هذه الصور الأكثر تفصيلًا بنية النواة، جبلٌ طائر، كتلة ججريّة بقياس 8*15 كيلومتر في المساحة، ولا تعكس إلا 4% من الضوء الساقط عليها. ربمّا تعتقد أن الجليد يجب أن يكون ناصعًا ولامعًا، لكن الوضع ليس بهذه البساطة.
فمعظم نواة مذنب هالي مغطّاة بغبار كثيف وجزيئات داكنة، وبضع مناطق فقط تطلق الغاز. أغلب الظنّ أن يكون مخزون الجليد تحت القشرة، وقليلٌ منها يحصل على الدفء اللازم من الشمس ليتبخّر وينفث الغاز.
تمّت ملاحظة ذلك مع غيره من المذنّبات أيضًا، فالغاز ينبعث من مناطق محددة من المذنب، مما يعني أن أسطح المذنّبات غير متجانسة، مختلفة بتغيّر المناطق السطحيّة.
أهميّة المذنبات
في عام 2004 مرّ مسبار الفضاء الخاص بناسا Stardust داخل ذؤابة المذنب Wild 2 جامعًا عيّنات للعودة بها إلى الأرض. وبالتحليل الدقيق في هذه المواد تمّ العثور على المواد العضويّة، جزيئات تحوي الكربون فيها، وليس جزيئات بسيطةً فحسب، بل أخرى معقّدة، كالأحماض الأمينيّة، وهي اللُبنات الأساسيّة في الحياة على كوكب الأرض، فالأحماض الأمينيّة هي المكونات الأساسيّة في تخليق البروتين.
ومن الممكن أن مكوّنات الحياة على كوكبنا لم تكن موجودةً فيه بدايةً، بل تمّ إحضارها على متن المذنّبات إليه، أو حتّى أن يكون بعضها جاء على هذه المذنّبات، فهل يعني ذلك أن جزءًا من أصل الحياة في كوكبنا، فضائيّ؟
تقوم مهمّة روزيتا بالعمل على استكشاف أهميّة المذنبات وإمكانيّة وجود دورٍ لها في إيصال المواد الأساسية للحياة إلى كوكبنا، وذلك بمراقبتها للمذنب، وحتى بإنزال المسبار فيلي لدراسته بقرب، بقرب جدًا!
ويمكننا التفكير بالمذنبات بكونها بوابات زمنيّة، تسمح لنا بالعودة والتفتيش في ماضٍ سحيق يعود لأربعة مليارات سنة في الماضي، مختبرين أسرار وأصل الحياة، السؤال الذي طالما حيّر العلماء، هل يكون جوابه في الفضاء؟
اضف تعليقا