نُشر هذا المقال لأول مرة على موقع إضاءات
لتعرف هول الأمر، عليك فقط أن تعلم أنّ الرجال في الواحد في المئة الأقل دخلًا يعيشون بمأمول عمرٍ متوقعٍ يماثل أولئك الموجودين في باكستان أو السودان.
د. راج تشيتي
طوال التاريخ، حاول الخيميائيون والفلاسفة اختراع ما يُطلقون عليه حجر الفلاسفة؛ حجر ذو خصائص متفردة، فهو يحوّل الرصاص والنحاس لذهب، كما أنه منبع لإكسير الحياة، الإكسير الذي يطيل العمر. وقد فشلوا فشلًا ذريعًا طوال تجاربهم. لكن هل لن يوجد حجر الفلاسفة أبدًا؟، العلم يقول لنا إنه موجود بالفعل؛ المال هو هذا الحجر المنسي.
المال والعمر؛ علاقة شبه سببية
لطالما ارتبطت المكانة الاجتماعية بالثروة، وارتبط الفقر بفقدان الوظائف والمنازل وعدم إمكانية الحصول على تعليم جيد، ولطالما أثّرت الثروة على صحة الإنسان ونوعيّة حياته، لكن ما نوع هذا التأثير فعلًا؟. قامت مجموعة من الباحثين بقيادة د.راج تشيتي بنشر بحثٍ جديد في JAMA (دورية الجمعية الطبية الأمريكية) درسوا فيه العلاقة بين دخل الفرد وأثره على مأمول العمر المتوقع (Life Expectancy) في الولايات المتحدّة الأمريكيّة. رغم أنّ هذا البحث قام بدراسة العوامل الجغرافية والاقتصادية المحددة في الولايات المتحدة، إلا أنّنا يمكننا أن نستشف منه بعض الحقائق التي قد تنعكس على مجتمعاتنا.
ضمّت الدراسة أكثر من 1.4 مليار بيانات الضرائب بين عامي 1999 و2014 بالإضافة لأرقام التأمين الاجتماعي لكل مواطن أمريكي في الفترة ذاتها، ثم قابوا بربط هذه المعلومات معًا ومع معلومات الوفيات المرتبطة بأرقام التأمين الاجتماعي ليحصلوا على نتائج تلخص دراستهم. كان مأمول العمر المتوقع للأكثر دخلًا 87.3 سنة بينما وصل مأمول العمر المتوقع للطبقة الأقل دخلًا إلى 72.7 سنة، وكان الوضع عند النساء مشابهًا بمأمول عمر يصل إلى 88.9 سنة في الطبقة الأعلى دخلًا مقارنةً بـ78.8 في الطبقة الأقل دخلًا.
«رغم التقدّم في مختلف مجالات الحياة؛ التقدم التقني والطبي، ما زالت الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتزايد شيئًا فشيئًا، لتصل إلى فرقٍ كبيرٍ في أمريكا»، يقول مايكل ستيبر، أحد أعضاء الفريق البحثي الذي درس العلاقة بين مستوى الدخل ومأمول العمر في الدراسة التي استمرت ثلاثة أعوام.
يرجّح الباحثون وجود هذه الهوّة لعدّة أسباب، بينها:
- نوعية الرعاية الصحيّة التي يتلقاها الفرد.
- خواص البيئة المحيطة، كالتعرض المستمر للهواء المتلوث.
- عدم المساواة في الحصول على الوظائف.
لكن لم تدعم البيانات الناتجة من الدراسة أيًّا من هذه الأسباب.
الدخل العالي يشابه بطاقةً مجانيةً للتخلص من السرطان.
بالإضافة إلى الفرق بين حجم وتزايد الهوّة في الدخل، وجد الفريق أنّ هناك عوامل أخرى تلعب دورًا في اختلاف الفرق، حيث اختلفت الفجوة في العمر المأمول في مناطق مختلفة في الولايات المتحدة، ولكن العوامل التي أحدثت فرقًا لم تكن غريبةً، كمعدلات التدخين ومعدلات السمنة في مدنٍ معيّنة، كانت تؤثر على العمر المأمول، لكن أمورًا كالقدرة على الوصول للرعاية الصحيّة، الظروف المناخية، وفقدان التماسك الاجتماعي في الطبقات الفقيرة، والذي يؤدي لزيادة الضغط النفسي عند صاحبي الدخل المنخفض، بالإضافة لعدم المساواة في الدخل ، كل ذلك لم يكن مهمًا في بعض المناطق.
تنامي هذه الهوّة في معدلات الوفيات بما يقارب الثلاث سنوات، أثار اهتمام الباحثين بشكلٍ كبير، حيث يقول أحد مسؤولي الصحة الفيدرالية أنّ القضاء على جميع أنواع السرطان قد يزيد من معدل الحياة الطبيعية بمدة ثلاث سنوات؛ أيّ أنّ التغيير الذي حصل في الولايات المتحدة في الخمس عشرة سنةً الماضية أكسب الأغنياء ما يُشابه «انتصارًا على السرطان».
يقول الباحثون أنّ هذه النتائج لا تدل على سببية بسيطة، فقد لاحظ باحثو العلوم الاجتماعية أنّه من الصعب ربط الثروة بالصحة، وإن كانت الصحة تزداد بزيادة الثروة، لكن من المعقول القول أنّ كليهما يرتبطان ويتفاعلان مع بعضهما بطرق معقدةٍ نوعًا ما، بطرقٍ لا تستطيع الدراسة شرحها.
وما زاد الأمور غموضًا هو أنّ الدراسة تقول بأنّ زيادة الأموال تؤدي لزيادة في مأمول العمر بشكلٍ غير متوّقع؛ أيّ أن العشرة بالمئة الأكثر كسبًا للمال لا تمتاز بمأمول عمرٍ متقارب، بل يزيد الفرق حتى داخل هذه المجموعة مع كل واحد بالمئة!.
يمكنكم الاطلاع على الدراسة الكاملة من موقع JAMA، ولتبسيط أكثر يمكنكم مشاهدة الفيديو أدناه:
السعادة والمال
الآن ننتقل إلى موضوعٍ آخر، لكنه مرتبطٌ أيضًا بالقضية نفسها؛ المال. فقد سمعنا جميعًا تلك العبارة التي تقول «المال لا يشتري السعادة»، لكن هل هذا صحيح فعلًا؟، عندما تخرج مع أصدقائك إلى مقهىً ما، تشاهد الأفلام أو تشتري الروايات، كل ذلك والسعادة التي تحصل عليها جاء فعليًا من وجود المال أولًا.
يقول باحثون من جامعة كامبردج أنّ هناك رابطًا بين السعادة والمال، فقد وجدوا أنّ الرضا عن الحياة يزداد بزيادة إنفاق المال، لكن فقط عند استخدام هذا المال بما يتوافق مع طبيعة الأشخاص الذين ينفقونه.
حلل باحثون أكثر من 76 ألف تعامل تجاريّ من قبل 625 شخصًا في فترة ستة أشهر، ليصلوا إلى نتائجهم، حيث تمّ ترتيب التعاملات في 59 فئة مختلفة، وتمّ ترتيب هذه الفئات حسب الميزات الشخصية الخمسة: الشخصية المتقبلة openness ، العقلية المتيقظة صاحبة الضمير conscientiousness ، الانبساط extraversion (عكس الانطوائية)، العصابية neuroticism والقنوعة agreeableness.
قام المشاركون بالإجابة على استبيان على الويب، لتحديد نوع شخصياتهم ومقدار رضاهم عن حياتهم، ووجد الباحثون بعد تحليل نتائج هذا الاستبيان أنّ الإنفاق كان يختلف حسب نوع الشخصية، فالانبساطيون ينفقون 77 دولارًا أكثر من غيرهم في الحانات، بينما ينفق الأشخاص ذوو الضمير المتيقظ 183 دولارًا أكثر من غيرهم في مجال الصحة واللياقة البدنية.
وأظهرت الدراسة أيضًا أن الإنفاق المرتبط بالشخصية له علاقة وثيقة بالسعادة، وكما تقول الورقة البحثية «إنّ أولئك الذين ابتاعوا مشتريات مماثلة لنوع شخصيتهم، سجلوا رضًا أعلى عن حياتهم، كما أنّ هذا العامل كان أكثر تأثيرًا من تأثير الدخل الكامل أو الانفاق الكامل».
من الجدير بالذكر أنّ الدراسة لم تظهر سببية أيضًا، فقط ارتباطًا بين متغيرين. وللاستمرار في البحث، قام الباحثون بدراسة ثانية مع 79 مشاركًا، أُعطي كلّ منهم 10 دولارات وأخبروهم بكيفية صرفها. قام المشاركون بالإجابة على استبيان سعادة قبل الحصول على القسيمة الشرائية وآخر بعد استلامها وثالث بعد استخدامها، ورابع بعد 30 دقيقة.
وبعد مراجعة وتحليل بيانات الاستبيانات الأربعة، استطاع الباحثون أن يؤكدوا أن إعطاء 10 دولارات للانبساطيين لإنفاقها في الحانة سيجعلهم أكثر سعادةً من الانطوائيين في نفس الحالة، وأنّ إعطاء الانطوائيين هذه القسيمة لشراء الكتب سيجعلهم أكثر سعادة من الانبساطيين.
«تقترح نتائج الدراسة العملية أنّ هذا التأثير سببي؛ أي أن الإنفاق المطابق للشخصية يزيد من السعادة».
في النهاية، أكد الباحثون أن دراستهم تظهر أهمية إنفاق الأموال في المجال الذي يطابق الشخصية، وأنّ ذلك قد يكون بأهمية عثور المرء على عمله المفضل، أو حتى شريك حياته.
اضف تعليقا