نُشر هذا المقال لأول مرة على أراجيك
في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، نظر سانتيغو رامون كاخال من خلال المجهر وانبهر، للمرة الأولى كان على موعد مع “الخلايا العصبية”-العصبونات- بشكلها الغريب واستطالاتها الهيوليّة ومحاورها الممتدة بالاتجاهات المختلفة.
منذ تلك اللحظة بدأ اهتمامنا بالعلوم العصبيّة، وأصبحت هذه العلوم مصدر إلهام لكلّ من العلماء والفنانين في آن واحد، يكتب كاخال في مذكرة ملاحظاته:
يا لها من مفاجأة غير متوقّعة، على الخلفيّة اللامعة الصفراء، تظهر ألياف سوداء بعضها نحيلة ورقيقة، أخرى كالأشواك، وثالثة سميكة وغليظة، أشكال متنوعة كالنجوم أو المثلثات. إنّ المرء ليعتقد أنّ هذا الشيء هو تصميم تمّ بالحبر الصينيّ على الورق اليابانيّ الأبيض!
يقوم الفنان، عالم الأعصاب غريغ دون وشريكه براين إدواردز في أحد أعمالهما المشتركة بمحاولة استكشاف العالم الداخلي للدماغ بحسٍ فنيّ، ليعكسا الجمال والتعقيد لأكثر اعضاء الجسم تعقيدًا.
يقول دون: “العقل هو عضو راقٍ بشكلٍ غير مفهوم، هو آلة معقّدة، ورغم عملنا المتزايد لاستكشافها خلال الثلاثين سنةً الماضية، فإن سحره وغموضه ما زالا عميقين. هناك كميات كبيرة من الأسئلة غير المجابة بعد، ننتظر الغوص أكثر للوصول إلى أجوبة لها.
بعد أن حصل على شهادة الدكتوراه في العلوم العصبيّة، قرر دون أن يخصص وقته كاملًا للفَنّ. اعتمد دون في أعماله السابقة على أسلوب بسيط في تناوله للمواد التي يُبدع فيها. كان يرسم عدّة نيورونات باستخدام أسلوبٍ صينيّ يُسمّى “sumi-e“، الرسم بالحبر والماء على لوحات بقماش مذّهب. لكن الدماغ بعيدٌ كلّ البعد عن كونه “بسيطًا”، هو شبكة معقدة من أكثر من مليار نيورون، وكل نيورون يتحدث إلى الآخر بشكلٍ متواصل!
ليحاول دون نقل جزء بسيط من هذا التعقيد والديناميكيّة الموجودتين في الدماغ، قام هو وزميله إدواردز بتطوير طريقة سموها microetching، فقاموا بالرسم على سطح عاكسٍ، ومن ثم رسموا النورونات بتشكيل حواف ميكروسكوبيّة بزوايا معيّنة لجعلها قادرةً على تلقيّ الضوء من الاتجاهات المختلفة. النتيجة: صورة قادرة على التغيّر بتغيّر زاوية النظر إليها.
يقول شريك دون، الفيزيائيّ والمهندس في جامعة بينسيلفانيا، إدواردز: “كنّا نريد معرفة قدر المعلومات الذي نستطيع وضعه في لوحةٍ واحدةٍ وإبقاءها مفهومة”
.هذه اللوحة بعنوان Chaoic Connectome، وتُعتبر أول لوحةٍ ينتجها الفنانان بطريقة الـ Microetching، وتعكس مشهدًا عصبيًّا مجردًا، وتوضّح عمق التعقيد للأجزاء المختلفة في الدماغ، تضيء هذه اللوحة بثلاثة ألوان.
الـConnectome هو التعبير الذي يطلق على خريطة شبكة من العصبونات.
بينما تظهر هذه اللوحة منطقة الحٌصين- منطقة في الدماغ مسؤولة عن الذاكرة قصيرة الأمد- عند الفئران.
سُميّت هذه الصورة Brainbow Hippocampus، وتدّل على قسم الحصين المسؤول عن الذاكرة والتعليم، وتوّضح اللوحة طريقةً جينيّة مهمة تسمّى Brainbow، وفي هذه الطريقة يتمّ التلاعب بالنيورونات لإنتاج تركيبات عشوائيّة من البروتينات المضيئة بألوان مختلفة، كالأحمر والأصفر والأزرق.
بشكلٍ مشابه للوحات الأخرى، فإنّ كلّ عصبون في هذه اللوحة يصله الضوء من زاوية معيّنة، وعند وضع المصابيح المختلفة بشكلٍ ملائم حول اللوحة، فإنّ كل نيورون يظهر تركيبةً فريدةً من الألوان، وتتغيّر بتغيّر مكان الناظر وزاويته.
عند المشي بين هذه القطع الفنيّة، تستطيع أن ترى النيورونات تلمع بالألوان المختلفة، الأصفر، الأزرق والأحمر. بعضها قد يختفي ثم يعود للظهور بتغيّر مكانك أثناء النظر إليها، مما يخلق لديك شعور الحركة في داخل اللوحة.
يقول إدواردز: “رسمنا الخطوط كحواف صغيرة، مثل الأمواج في المحيطات. عندما تصبح عيناك في الزاوية الملائمة مع الضوء الملائم، تعكس هذه الحواف الضوء لتراها، لإضافة هذا البعد الجديد إلى اللوحة، وإضافة معلومات أكثر في لوحة واحدة، قمنا بالتحكم بزوايا الحواف”.
بهذه الطريقة، قام كلّ من دون و إدواردز ببثّ الحياة في لوحاتهما. كتب إدواردز خوارزميّة لحساب عدد الزوايا بشكل دقيق في كلّ منطقة من اللوحة لتقوم بعكس الضوء إلى الناظر في المكان الملائم.
بهذه الطريقة Microetching، يمرّ الزائر أمام اللوحة فتضيء أجزاء منها خلال مشيه أمامها وتتغير الأماكن المُضاءة بتحركه. في لوحة تُسمّىPranayama ، على سبيل المثال، يمرّ الزائر أمامها من اليسار إلى اليمين، فيستطيع أن يرى الضوء يتحرك بنمطٍ معيّن من الأطراف إلى الصدر ثم ينتقل ليخرج من الفمّ.
لوحةٌ باسم Pranayama
وبقليل من الفنّ والتخيّل، يمزج الفنانان النيورونات مع الدارات الكهربائيّة في اللوحة التالية:
Cortical Circuitboard
تتبع النيورونات واستطالاتها الهيوليّة أشكالًا واتجاهاتٍ مختلفة، وتكمن الصعوبة في إعادة خلق هذه العشوائيّة من قبل البشر. “رسم كلّ خط فرديّ باليد يجعلك تنظر للدماغ بشكلٍ مختلف، إنها تجربة تجبرك على التواضع، كيف يريد الدماغ المعقّد والعشوائيّ أن يرى الأنماط المحددةٍ والمنتظمة في كل شيء” يخبرنا دون.
في أعماله السابقة، قام دون بتطبيق طريقة لمحاولة إعادة ابتكار العشوايّة “كنت أرمي الحبر على اللوحة البيضاء، وتتدخل حينها عوامل مختلفة، كاختلاف التيار الهوائيّ، اختلاف درجة لزوجة الحبر، واختلاف قدرة ألياف اللوحة على امتصاص الحبر بكميات مختلفة، كل تلك العوامل تؤدي لظهور نموذج فوضويّ مختلف على اللوحة، وهذا ما أسعى إليه”.
رغم أنّ التذوّق الحقيقيّ لفنّ الـ Microetching لا يمكن استجلابه من الصور الثابتة أو مقاطع الفيديو، إلّا أنّه من الممتع مشاهدتها، يمكنك مشاهدة الفيديو التالي عن لوحات إدواردز ودون.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=VRCGTL8QNds]
تلقّى الشريكان منحة من مؤسسة العلوم الوطنيّة لإعداد لوحة عملاقة لمعهد فرانكلين. ستغطي هذه اللوحة حائطًا كاملًا وتعرض الدماغ البشريّ بنصفيه لتظهر النيورونات والاتصالات المختلفة بينها مرسومة كما أظهرتها معطيات التصوير العصبيّة والمعطيات الأدبيّة في تشريح الدماغ.
يضيف إدواردز في النهاية:
هناك الكثير من الأشياء المثيرة للاهتمام في العلوم والطبيعة، لكن العلماء هم الوحيدون الذين يتمتعون برؤيتها، وربما لا يلاحظون جمالها أثناء انشغالهم في أعمالهم وانشغالهم بمجاهرهم، رغم جمالها الصارخ. لذلك لن نحصر فننا في الدماغ وحسب، بل سنحاول تصوير وإظهار كلّ ما هو جميل وملهم.
اضف تعليقا