المناوبة اصطلاحًا وتعريفًا هي فن البقاء مستيقظًا ومحاولة استجماع قواك العقلية للتركيز في شكوى المريض، الذي يأتيك الساعة الثالثة صباحًا، دون استخدام السلاح الأبيض.
ستة أشهر تقريبًا حتى الآن، هي تلك التي بدأت بها مناوباتي الحقيقية، أو كما يقول أصدقائي المصريون “النبطشيّة”، والتي حسب قاموس المعاني الإلكتروني “نوبتجية“. تبدأ المناوبة في أيام الأسبوع العادية من الساعة الثالثة والنصف ظهرًا، أو كما نقول هنا في بلاد الجرمان: الساعة الخامسة عشر ونصف. تبدأ بزيارة قسم السكتات الدماغية والتعرف على حالة المرضى هناك، من قد يموت ليلًا، من يحتاج لمعالجة إسعافية سريعة، وغيره. ثم تأتي لحظة الحقيقة وتتسلم هاتف المناوب المحمول. الهاتف الأسود الصغير الذي لا يتوقف عن الرنين، تبًا له.
كم مرةً أردت “طحبشة” هذا الجهاز الأسود الكئيب! ما علينا. ننطلق بعد أول اتصال ونتوجه إلى الإسعاف، هنا تواجهني سيدة في الخامسة والسبعين من العمر، كتب لها طبيب الأسرة وأرسلها معتقدًا أنّها تعاني من متلازمة “غيلان باريه” والمعروفة اختصارًا GBS. بشكل سريع: هذه المتلازمة من الأمراض العصبية الحادة والتي قد تؤدي للموت باضطرابات قلبية وتنفسيّة. عصبيًا يهمنا أمران: المنعكسات العصبية التي تزول، وغالبًا ما يفقد المريض منعكسات الطرفين السفليين أولًا ثم العلويين، والأمر الآخر هو الخزل العضلي (الضعف العضلي). مريضتي لم تقدم لي سوى شكوى واحدة: رجلاها تهتزان قبل النوم، وهي تعاني من الخوف والوحدة منذ موت زوجها.
هي مريضة فعلًا، لكن ليست مريضةً لي، وليست مريضةً يجب إرسالها إلى الإسعاف، اتصلت بالطبيب النفسي والذي حضر وجهز لها موعدًا قريبًا عند رئيس القسم.
بعد نصف ساعة جاءت مريضة عصبيّة، ولنسميها السيدة ب. كانت شكوى السيدة ب كالتالي: خلال وجودها في السيارة أحست بخدر في نصف وجهها الأيسر وضعف عضلات الطرف الأيسر.
بشكل عام نتوجه إلى تشخيص واحد وغالب وهو السكتة الدماغية، أو احتشاء دماغي في المنطقة المغذاة من قبل الشريان الدماغي الأوسط ACM. بعد استبعاد مضادات العلاج بدأنا بحقن الدواء الذي يقلل احتمال تشكل جلطة أو استمرار السكتة في نهش نسيج الدماغ البشري. خلال نصف ساعة تحسنت حالة الطرف الأيسر، تستمر المعالجة مدة ساعة كاملة ثم نرسل المريضة إلى وحدة السكتات.
المريضة الثالثة كانت مريضة صغيرة العمر، في الخامسة والثلاثين تشعر باختلاف الإحساس في اليد اليمنى والخد الأيمن بمقدار ٣٪، بمقدار ٣٪؟؟؟؟ كيف تستطيعين تحديد ٣٪ ؟
هذا ما نسميه نحن: نوبة هلع.
لكن أسوأ الأحوال هي عندما تأتيك في الساعة الواحدة والنصف ليلًا.
بعد ذهاب المريضة الأخيرة إلى المنزل، اضطررت لمعاينة خمسة مرضى آخرين، قبل أن أنهك نفسي مسرعًا إلى الاجتماع الصباحي لأقدم الحالات التي واجهتها في مناوبتي، نبطشيتي. ثم أبقى ساعة أو ساعة ونصف لإنهاء جميع الأوراق المتعلقة بهؤلاء المرضى.
أشرب الريدبول وأنطلق، أنظف المنزل، أستحم، أغسل ملابسي. أستلقي في سريري محاولًا النوم، لا أستطيع. وأبقى شبه مشلول لكامل اليوم. أشاهد Love, Death, Robots كاملًا، مستوعبًا اللاشيء، وأستمع بعدها لحلقة فنجان مع بلال فضل. ومن ثم أكتب لكم هذه الكلمات، قبل أن أتوجه للنوم.
تصبحون على خير.
[…] في آخر مناوبة ليّ، بقيّت الاستشارية المفضلة عندي في المشفى، رغم انتهاء دوامها الرسمي وجاءت لتودعني. عانقتني بقوة، ثم أخبرتني بعينين حزينتين أنّها ستفتقد وجودي. […]
[…] الجانب ٢: غدًا أول مناوبة لي في قسم النفسيّة. […]
[…] مناوبة سهلة والحمدلله، مريض واحد فقط. شاب في الثلاثين من العمر، لاجئ في ألمانيا بسبب الأوضاع في العراق، وذلك بعد أن قُتل أخوانه الأربع أمام أعينه. استقبلته وقبلته في شعبة الاكتئاب والصدمات. […]
[…] وكان ممتعًا فعلًا، وسيفهمه حق الفهم من عمل في الطب وناوب وكان […]
[…] التدوينة عودةً لرحلتنا، هذه المرة سأحدثكم مجددًا عن مناوبتي/نبطشيتي […]
[…] اليوم من مشفى غيسين الجامعي، بجانبي هاتف النبطشية، مستعدًا للطوارئ، وعلى جهاز العمل أكتب رسائل تخريج […]