المناوبة الأخيرة

لم يكن كتاب الثلاثاء مع موري أول كتاب أقرأه لألبوم، بدأت برواية غير معروفةٍ له، حافظ الوقت، ثم

انتقلت بين كتبه المختلفة. وددت دومًا قراءة هذا الكتاب، لم تُتح لي الفرصة آنذاك.


في آخر مناوبة ليّ، بقيّت الاستشارية المفضلة عندي في المشفى، رغم انتهاء دوامها الرسمي وجاءت لتودعني. عانقتني بقوة، ثم أخبرتني بعينين حزينتين أنّها ستفتقد وجودي.

 أعطتني بعدها هديّةً مغلفة وأكدت لي ألّا أفتحها إلا في المنزل.

بعد نزع الغلاف ظهر لي اسم ألبوم على الكتاب، للحظة وددت ألّا يكون كتابًا مما قرأته له. ثم ظهر العنوان، أيام الثلاثاء مع موري. لم أبدأ قراءة الكتاب إلا مؤخرًا بداية أكتوبر.

الأستاذ والطالب

يشرح ألبوم في البداية علاقته مع موري، أستاذ علم الاجتماع. ثم أصبحت العلاقة أخويّة لينادي ألبوم موري “كوتش”. يصاب موري بداء التصلب الجانبي الضموري، وهو مرض عصبيّ يفقد المريض فيه القدرة على التحكم بعضلاته، أي أنّه يبقى عقليًا هنا، لكن ينهار جسده عضوًا تلو الآخر، لينتهي بضعف عضلات التنفس، والموت. (كتبت عن ذلك سابقًا هنا وهنا.)

وفي إحدى محادثاته يتساءل موري “لمً نشغل أنفسنا بالأشياء التي لا تهمنا؟” ردًا على انشغال العالم حينئذٍ بالأميرة ديانا وقضية أو.جي. سيمبسون.

ويضيف: “الثقافة التي نعيشها اليوم ليست مناسبةً للسماح للمرء بأن يحسّ بالراحة، ويجب أن يكون المرء حازمًا ليقول: لا، لن أعيش كما تريد ثقافة اليوم، سأعيش كما أريد وكما أرتاح.”

في أول ثلاثاء تحدث الاثنان عن العالم، فموري مازال يقرأ الجرائد ويشاهد الأخبار، رغم معرفته ويقينه أنه لن يكون هناك ليتابع النتائج. ويحدث موري ألبوم أنّ أهمّ ما يتعلمه المرء هو أن يحبّ ويسمح لنفسه بتلقي حبّ الآخرين.

وبعد ثلاثاء آخر، حضّر ألبوم قائمة بالأسئلة عن الموت، والخوف، والعمر، والشرف، والعائلة، والمجتمع، والعفو، والحياة القويمة.

وفي ثلاثاء الموت، أردف موري قائلًا: “الكل يعرف أنّه سيموت، لكن لا أحد يريد تصديق ذلك.  ومن الأفضل بالطبع أن يكون المرء جاهزًا لتقبل هذه الحقيقة وتوقع حصولها في أيّ وقت.”
فيسأل ميتش:”وكيف يتجهز المرء لهذه الحقيقة؟”

فيجيب موري:” اعمل كالبوذيّين، فهم يتخيلون طائرًا جالسًا على كتفهم، يسألهم دومًا، هل اليوم هو المنشود؟ هل أنا جاهز؟ هل أعمل ما أريد عمله؟ هل أنا المرء الذي أريد أن أكونه حقًا؟”.

ومن أجمل الاقتباسات هو التالي:

“عندما تعرف كيف يموت المرء، تتعلم أيضًا كيف يحيا.”

وفي الثلاثاء الرابع يتناقش موري مع ميتش عن العائلة. ويشرح موري عن أهمية العائلة، عن الأمان الذي توفره للشخص، فخلال مرضه لم تتخلَ عنه عائلته أبدًا، ويتذكر فقدانه والدته وفقدانه الشعور بهذا الأمان آنذاك.  

هنا يبدأ ميتش بتذكر أخيه المُصاب بسرطان البنكرياس، أخيه الأصغر، المختلف عن العائلة بشعره الأشقر وعينيه العسليتيّن. الأخ الأصغر الذي ترك العائلة وسافر إلى أوروبا وبقي وحيدًا طوال فترة مرضه تاركًا العائلة بعيدًا، مانعًا إيّاها من التدخل. ويخطر ببال ميتش أنه، ربما لهذا السبب، يستمتع بقضاء الوقت مع موري، لأن أخاه لم يسمح له أن يقف جنبه.

المال والحب والزواج وأشياء أخرى

وفي حديثه عن المال يقول موري” في بلادنا نغسل الأدمغة، هل تعرف كيف تُغسل الأدمغة؟ يعيد الرجل الكلام مرارًا وتكرارًا: من الجيد أن تملك الكثير، من الجيد أن تملك المال، من الجيد أن تملك أكثر. المزيد أفضل. نحن نعيد كل ذلك ونكرره حتى نعجز عن الإتيان بشيء جديد. الناس يبحثون عن الحبّ بتعطش ويرضون استبداله بهذه الأشياء الماديّة. المال ليس بديلًا عن العاطفة. أستطيع أن أؤكد أنّ المال أو القوة ليست ما تحتاجه عندما تنازع المرض والموت.”

وفي ثلاثاء الحبّ تحدث موري:” الحب هو الطريق الذي يبقيك حيًّا. المشكلة يا ميتش أنّ الناس لا يجدون معنىً لحياتهم، لذلك يركضون بشكل متواصل للوصول للجديد، بيت جديد، سيارة جديدة، عمل جديد. وبعد ذلك يكتشفون فراغ ما وصلوا إليه لتبدأ حلقة الركض ثانية.”

ثم تحدثا عن الزواج، فيقول موري:” يؤسفني ما يحدث لجيلك، فمن المهم أن يجد المرء علاقةً حب في ثقافتنا. لكن شباب اليوم إما متكبرون أو أنانيون، فلا يستمر الزواج سبعة أشهر إلا لينهار. هم لا يعرفون مايردونه من زوجهم، هم لا يعرفون أنفسهم حقًا، فكيف يختارون إذا شركائهم؟”

وفي ثلاثاء الحديث عن الحضارة، شرح موري الشبه بين البشر، فبالرغم من الاختلافات الشكلية، ذكر وأثنى، أسود وأبيض، نبقى في النهاية عائلةً كبيرة واحدة.

ويتابع الحديث عن المسامحة، فيتذكر صديقًا له، صديقًا عزيزًا تركه لخلاف بسيط، ثم عرف أنّه مريض بالسرطان ولم يستطع أن يزوره ويخبره أنّه قد سامحه ويكون بجانبه في آخر أيام حياته. ويضيف:” سامح نفسك، سامح الآخرين، لا تنتظر، فالوقت لا يرحم.”

ثم يقفز ميتش لمحادثة قديمة بين الاثنين، حيث وعد أستاذه بزيارة قبره، الذي أراد منه الحديث بشكلٍ مستمر ودائم، فاعترض ميتش، لأنه لن يسمع رد أستاذه، فرد ميتش: ” عندها أنت تتحدث، وأنصت أنا.”

في النهاية يموت موري كما هو مُتوقع، لن أستفيض أكثر في الحديث عن الكتاب، ٧٠٠ كلمةٍ تكفي!

ذرفت الدموع خلال الصفحات العشرين الأخيرة، هل كان ذلك بسبب الكتابة نفسها، أم لأن الاستشارية، أستاذتي، هي التي أهدتني الكتاب؟ ربما الاثنان معًا.

في حياتي قابلت الكثير من الأساتذة، جديّ فرزات أحدهم، كلّ من درّسني أضاف لي على الأقل شيئًا واحدًا وعلمني الكثير.

أتمنى أن أكون بعد خبرةٍ وعملٍ طويلين “موري” لأحدهم.