نظرت المعالجة النفسية إلي أثناء اجتماعنا في مجموعة بالينت وسألني بنبرة صوت منخفضة: ” كيف تشعر حيال الأمر، هل تستطيع أن تتقبله الآن؟”
هززت رأسي نافيًا، لا ليس بعد، ما زلت أعاني من الكوابيس. أراه بشكلٍ دائم أثناء نومي وأحاول أن أساعده، لكن لا أستطيع.
الثلاثون من أكتوبر
رأيته مجددًا، السيد سين مع والدته، يا ترى لما عاد إلينا من جديد؟ تحدثت معه ومع والدته في غرفتي سويةً، جلست والدته التي تبلغ من العمر ستين عامًا على الكرسي ببطء. سيدة قصيرة، شعرها أبيض وعيناها كبيرتان بشكلٍ مخيف، جلست قبالتي وعلى يسارها جلس سين صامتًا.
“إنّه يريد أن يقتل نفسه، يريد الاستلقاء على سكة القطار، لذا كنا في الشُعبة المغلقة لثلاثة أيام، والآن قلّ تفكيره بالموت.” بدأت السيدة بالحديث.
يبدو أنّ سين أشار بإصبعه السبابة اليمنى على معصمه الأيسر بإشارة يقصد بها قطع الشريان، الأم، المصابة بالشيزوفرينيا أيضًا، لم تستطع أن تتحمل ذلك، لذا جاءت إلينا مع الشرطة.
حسنًا، نظرت إلى سين. لم أعرف بماذا أشعر، صراحةً اشتقت إليه وإلى أحاديثنا سويةً، لكن لم أرغب بقبوله مجددًا في الشعبة بهذه السرعة، هذا يعني أنّ حالته تسوء حقًا.
بعد أن ذهبت والدته جاء سين إلي وتحدثنا في جلسةٍ سوية، مزحت معه كما أمزح سابقًا وتحديته في لعبة تنس، ولكنّه لم يبد رغبةٍ كبيرةٍ بذلك.
تحدثنا عن عمله، عن الست الساعات، مازال يشعر بالخوف والقلق. عدم الراحة يكاد يبلغ القمة لديه. حاولت أن أطمنه، فهو يعيش بالقرب من أهله، وزوجته تحبه وأصدقاؤه في العمل طيبون معه. لكنّه كان خائفًا، كان خائفًا حقًا.
الثاني من نوفمبر
أشعر بأنّ حجرًا كبيرًا يستقر على قلبي، لا أستطيع التنفس. أكاد أقسم أنّي أراه. كلّ نفسٍ يدخل صدري يسحب معه ألم كلّ الأمهات في الدنيا ويخرج معه جزء من رئتيّ لأسعل بقوةٍ، أريد أن أنسى فقط، لا أريد أن أغادر السرير. أفتح تويتر لأجد بوجهي التغريدة التي كتبتها قوات الإطفاء.
لا أريد أن أذهب إلى العمل يوم الأثنين، أريد فقط أن أنسى.
الساعة السابعة صباحًا، الأول من نوفمبر
مناوبة سهلة والحمدلله، مريض واحد فقط. شاب في الثلاثين من العمر، لاجئ في ألمانيا بسبب الأوضاع في العراق، وذلك بعد أن قُتل أخوانه الأربع أمام أعينه. استقبلته وقبلته في شعبة الاكتئاب والصدمات.
استيقظت السابعة صباحًا من يوم السبت، ونزلت إلى غرفة الممرضات لأتناول القهوة مع الممرضة فاء والطالب المعاون ن. أخبرتهم بقصة الشاب العراقي المحزنة، تنهدنا معًا ثم شربنا القهوة سوية.
على الطاولة نرتب أدوية المرضى ونصفها لهم بشكلٍ يومي، ولكل مريض علبة خاصة به، نظرت بشكلٍ غير مقصود إلى علبة السيد سين.
“عجيب! لم يتناول حبات الصباح بعد، سين لا يفعل هذا أبدًا.” أخبرت فاء، والتي أرسلت ن. بدورها إلى غرفة السيد سين. هناك وجد شريكه في الغرفة نائمًا، وسأله عن آخر مرة رأى سين فيها، ليخبره الأخير أنّه رأه قبل نصف الساعة فقط.
بدأنا بالبحث عن سين، كان شعور الخوف يتملكني، لماذا؟ لا أعرف. كل ما أعرفه أنني أردت رؤية سين وتوبيخه لخروجه دون إخبارنا.
أنا والاستشاريّ النفسيّ – الأثنين بعد الظهر
جلس الاستشاري المختص بالصدمات والاكتئاب قبالي، هو من أحب الاستشارييّن في المشفى لقلبي، فعنده قضيت أول خمسة عشر يومًا، وعزمني على الغذاء في بيته مع حبيبتي يمنى بعد ثلاثة أيام من وصولي، وهذا عند الألمان غريب.
“لم يكن بإمكانك فعل أي شيء يا فرزت، الاختيار والخطة محكمة، وإنه لمن المدهش أن يخطط مريض مصاب بالشيزوفرينيا بهذه الدقة، بل وينفذ الخطة بتمامها. لم يكن بإمكانك فعل شيء، وإن كنت حزينًا فهذا طبيعي، في النهاية كلنا بشر.”
كنت قد بدأت أرتعد، ترتجف أصابعي، أتنفس بهدوء، أنظر إلى السقف. “ليس بهذا العنف يا باري، ليس بهذا العنف، لم أتوقع ذلك أبدًا، ليس بهذا العنف.”
السبت، المناوبة تنتهي، سين لم يظهر بعد
اتصلت بالاستشاري المسؤول عني، لأخبره بالتطورات التي حصلت، سألته إن كان علي الاتصال بالشرطة والإبلاغ عن فقدان السيد سين. نفى بهدوء وثبتني قليلًا، فالسيد سين قد يكون عند أهله أو زوجته، لذا عليّ الاتصال بالاثنين، وثم الانتظار حتى الساعة الثانية عشرة وبعدها الاتصال بالشرطة.
الأم والزوجة لم يعرفا شيئًا، بل بدى القلق عليهما عندما أخبرتهما أنّه ليس عندنا. الساعة التاسعة وخمس وثلاثون دقيقة، مناوبتي انتهت.
أتت الطبيبة الصديقة ه. وهي طبيبة خبيرة، درست الجراحة وطب القانون والآن تختص في النفسيّة. أخبرتها بما جرى وقلت لها أنّي أريد أن أتصل بالشرطة قبل انتصاف النهار. أريد أن أعرف ماذا جرى.
لدينا شبيهه، نعم وجدناه قريبًا منكم
اتصلت ه. بالشرطة وأخبرتهم بتفاصيل السيد سين، ولم تكد تنتهي حتى طلب منها الشرطي على الهاتف إرسال صورةٍ له، لأنهم وجدوا شخصًا على سكة القطار صباحًا.
لم أستطع أن أقف، بقيت جالسًا، قلبي ينبض بسرعة كبيرة، وجهي يصفّر، أطرافي تبرد. يا الله، ما الذي حدث، لماذا يا سين، ماذا فعلت. ما الذي جرى.
وداعًا سين
أكّدت الشرطة أن الشخص المتوفى هو مريضي، استلقى على سكة القطار في مكان لا يستطيع أحد أن يراه، وانتظر مرور القطار الذي ركبه للذهاب إلى عمله دومًا، هذه المرة عبر القطار دون أن يكون السيد سين فيه، كان السيد سين يرقد تحته للمرة الأخيرة.
لم أتوقع أن يختار السيد سين هذه الطريقة أبدًا، لم يكن يمتلك القدرة على إيذاء ذبابة، فكيف استطاع أن يفعل هذا الفعل الوحشي بنفسه. أشعر حتى هذه اللحظة بالقلق والخوف وأشعر بسكين تطعنني في صدري في كل مرةٍ أفكر فيها به.
أتمنى لو استطعت أن أساعده، تذكرت حينها آرثر فليك، وخطته للانتحار، وكيف أثر عدم فهم الناس له ولمشاكله على حياته. أسوأ مافي المرض النفسي هو توقع الناس أن تتصرف بشكل طبيعي. لقد كان سين قادرًا على اتخاذ قرارٍ صعب، أراد أن ينهي الألم الذي يشعر به.
كيف كان له أنّ يتصرف بشكلٍ طبيعي وهو مصاب بمرض صعب، بأصوات تنادي داخل رأسه، ورغم أنّها صمتت كليًا خلال العشر السنوات الماضية، إلا أنّها جعلته مضطربًا خائفًا لا يستطيع تحديد أي قرار يتخذه.
في النهاية استطاع اتخاذ القرار، وإن كان القرار السيء، بالنسبة له، بالنسبة لي.
جلست مع سين كثيرًا، جلست مع والدته وزوجته من قبل وناقشنا حالته وكيفية مساعدته للتخلص من الضغط والخوف.
المرض النفسي خطير ويقتل أحيانًا، يقتل ناسًا في مقتبل العمر.
رحل سين، السيد الأشقر، بعينين زرقاء باهتة، في منتصف الأربعينات وتركني مهزوزًا ومهزومًا إلى أبعد درجة.
لا أعرف
أفكر كل يوم فيه، الأسبوعان الماضيان كانا شاقان، لم أستطع الدراسة أو الكتابة أو القراءة بانتظام من وقتها. أشعر بالتعب طوال الوقت، أفكر بوالدته ووالده، زوجته. أشعر بالبرد والألم الذي شعر بهما. لماذا العنف، لماذا.
سألتني المعالجة النفسيّة في مجموعة بالينت: ” بماذا تحسّ حول كلّ ذلك بعض مضيّ أسبوعيين؟”
“الألم والندم، الغضب منه لاختياره الرحيل هكذا، التردد والخوف، ما الذي كان بيدي أن أفعله؟”
“لا شيء، لقد اتخذ قراره بنفسه، أحيانًا لا نستطيع أن نساعد الآخرين إن لم يريدوا المساعدة حقًا.” أجابت هي.
لا أعرف إن كان ذلك صحيحًا، ولا أعرف إن كانت الكتابة عن ذلك تساعدني، لكن أردت أن أكتب.
أكتب هذه السطور وأشعر بالاختناق.
إن كنت تعرف أحدًا يحتاج المساعدة ويفكر في الانتحار، ساعده، تحدث معه عن الانتحار وأبحث معه عن الحلول لمشاكله، حاول مساعدته للوصول إلى طبيب أو معالج نفسي، المرض النفسي خطير وقاتل حقًا. أقول هذا وقد مات الكثير من مرضاي في الطب العصبيّ، لكن هناك ماتوا لخلل في أعضائهم الجسديّة، خلل لم نستطع أن نتفاداه، لكن الخلل في التفكير والمرض العقليّ يمكن أن يُجابه، يمكن معالجته، ويمكن أيضًا على الأقل تخفيفه.
إلى روح السيد سين السلام، الذي لم يعرفه هنا.
“لا شيء، لقد اتخذ قراره بنفسه، أحيانًا لا نستطيع أن نساعد الآخرين إن لم يريدوا المساعدة حقًا.” واحدة من أصعب القناعات التي يُمكن للإنسان القيام بها.
دائمًا ما اتطرّق لهذه النقطة في الحديث عن الإنجاب، لا اعتقد أنني قادر على تقبّل قرار خاطىء لشخص أُحبّه بهذه البساطة، وفي نفس الوقت لا أُريد أن أملي عليه حياته.
نقطة صعبة جدًا في الحقيقة، لا يمكننا فرض خياراتنا، ولكن نفعل ما نستطيع لنحمي من نقدّر
قرأت تدوينتك هلا، كيفك اليوم؟
هلا ربى
أنا بخير، في معظم الأوقات. شكرًا لك 🙂
مؤسف للغاية كنت قد بدأت أحب سين بالفعل لا سيما اختيارك للحروف سين.. رائع.. كانت الأمور تشبه قصة كافكاوية جرمانية.. أترحم على روحه وأتمنى أن تستعيد قواك كليًا في أقرب وقت ممكن. شكرًا لمشاركتنا هذه المشاعر.
[…] الفلم من قبل، وقد أخبرتني إحدى الزميلات في القسم، حيث عُولج ثلاثة مرضى مصابين بوهم العظمة متخيلين أنهم عيسى المسيح. الفلم هو […]
[…] أمل نموت، حرفيًا. أحيانًا نحتاج للأمل، حتى الكاذب منه، للاستمرار في دفع […]
[…] ويعترف بأن ميزة الاكتئاب هو أنه مرض يمكن قهره، وليس الانتحار هو […]