الثالث عشر من آذار..يوم في حياتي يتكرر كل سنة، يتكرر كل شيءفي ذاكرتي فيه.
في 2007 استيقظت صباحاً كعادتي للذهاب للمدرسة، كنت في الثانوية العامة حينها، ذهبت مرتدياً كنزة سوداء فوق لباسي المدرسي الرمادي. كان يوماً كرهاً منذ بدايته، مرّ اليوم ببطء إلى أن وصلت إلى المنزل في الساعة الثانية، المنزل فارغ من الجميع، هذا شيء غريب بالنسبة لنا.. وجدت ورقة على الطاولة مكتوب عليها “فرزت” ، هرعت لأفتح الورقة وأقرأ محتواها، لكن رن الهاتف..كان المتصل عمي المسافر خارج البلد، يسألني أين أنا حالياً من رقم سوري! استغربت كيفية مجيئه من دون سابق إنذار أو اتصال..
رديت عليه بضحكة و سألته عن حاله، أخبرني أنه قادم للمنزل، كان في صوته نبرة غريبة..انتهت المكالمة، توجهت للورقة الموجودة على الطاولة البيضاء الكبيرة في غرفة الجلوس..
“فرزت، نحن في منزل جدتك الكبيرة، توفت الصبح…تعال عندما تقرأ هذه الورقة”
لم أصدق ما رأيته، لم أفهم..كلمة “توفّت” لم تكن مألوفة لدي، كيف؟ لماذا ؟ متى؟ جدتي؟ والدة جدي..جدتي الكبيرة..كيف..لم…
أخذت الورقة وأعدت قرائتها مرة أخرى..لم أخطأ..نعم..لقد توفت جدتي..
ذهبت إلى غرفتي، جلست على الأرض متكئاً على مكتبتي..مختبئأً في المسافة الصغيرة الموجودة هناك..بدأت دموعي تنهار ..لم أصدق الخبر حتى الآن..سمعت صوت كراج السيارة يُفتح، هرعت لأغسل وجهي..رأيت عمي داخلاً المنزل..عانقني وأرادني أن أسرع للذهاب معه..لم أغير ملابس المدرسة…والكنزة السوداء الداكنة..
وصلنا منزل الجدة..جدتي لم تكن مريضة في آخر سنواتها، فقط كانت مقعدة جزئياً في آخر سنتين..بعد أن كُسر ظهرها بحادثِ..كان عمرها يجاوز السادسة والتسعين..
..رأيت جدي جالساً ..رأيت جميع أعمامي قدمو من مختلف أصقاع الأرض جانب أبيهم، رأيت أخوة جدي ..رأيت مرارة الموت في وجوههم
رأيت أمي التي نادتني لدخول المنزل، كان المنزل مليئاً بالنسوة التي قدمن للتعزية..أو لا أعرف لم..ضائع كنت في تلك اللحظة..نادتني زوجة عمي لرؤية جدتي..للمرة الأخيرة..
كانت جثة فقط..مبتسمة نعم..لكن هادئة..رأيتها..للمرة الأخيرة..رأيتها وسقطت راكعاً على ركبتي..والدمع ينسكب من عيني..لن أستطيع أن أحصل على قبلتها الرقيقة على جبيني، ولا على كلماتها “الله يرضى عليك يا فرزت”..
الدفن…أصعب شيء قد يمر على الشخص…دفن شخص عزيز عليك..وضعه تحت التراب وإرساله إلى العالم الآخر، التخلي عن شخص تحبه صعب، أن تعلم أنك لن تحادثه مرة أخرى أبداً..
لا يحس المرأ بالضعف إلا عندما يفقد أمه..رأيت عيني جدي المليئتين بالدموع..شعرت بأني ضعيف أيضاً..
مرت السنون والأعوام..في كل سنة في الثالث عشر من آذار أزور قبر جدتي، أحادثها عن ما جرى في غيابها، كنت أزورها كل سبت في البداية..ثم ما لبثت الكلية أن أخذت وقتي..أصبحت زيارتي سنوية..أقوم بري الأعشاب والورود في المقبرة ثم أجلس وأحادثنها..في قبرها جانب قبر والد جدي..الذي لم أعرفه .
أتذكر دوماً آخر مكالمة “تعال لعندي يا فرزت، صارلي أسبوعين مو شايفتك” أرد أنا “لح أجي الخميس تيته بشوفك وبتغدى معك :)”
لم أكن أعرف أن للقدر خططاً أخرى أسرع من خططي…توفت جدتي في يوم الثلاثاء..قبل موعدنا بيومين..
أخبرت جدتي عن مولد أخي الذي تلا وفاتها بشهرين، أخبرتها عن الموت الذي جرى…عن الدمار..
هذه السنة الثالثة التي لا أستطيع فيها زيارتك…جدتي..سامحيني.