في الطائرة متجهاً إلى وجهة أخرى، كما جرت العادة، لم يسترح منذ عدة أسابيع، العمل والتصوير متنقلاً من بلد إلى آخر حاملاً الكاميرة للتصوير والعمل.
في تلك الطائرة، رحلة ممتدة خمس ساعات طوال، يصطدم فجأة بينما هو عائد من المغسلة بمضيفة الطائرة، يقرأ بطاقتها الاسمية “إيليا” يبتسم ويعتذر بشدة لها، تنظر إليه مبتسمة وترشده إلى مقعده.
ينظر إليها من بعيد، تراقبه بنظراتها هي أيضاً، تراقبه ثم تسأله إن كان يريد أي خدمة، يبتسم ويقول ” أريد صديقاً فقط، فلقد مللت من السفر”
تبتسم وتجلس جواره، تفاجئ دانييل بها، لكن لما لا؟  بدأت تعرفه عن نفسها وعن عملها في شركة الطيران وتنقلها المستمر من بلد لآخر، أخبرها بنفس الهموم والتنقلات المستمرة والحجز في الفنادق وعدم العودة إلى المنزل..كان يريد الراحة فقط!
تحادثا طوال فترة استراحتها، ثم اعتذرت منه للذهاب إلى العمل..وصلوا معاً إلى ألمانيا وتوجه كل منهما إلى طريقه بعد ابتسامة وسلام.
يرن هاتفه ليلاً، يستيقظ، “مرحباً أنا إيليا، هل أنت مشغول؟”
فينيسيا
“لا ليس بالفعل، مم أهناك مشكلة؟”
“ههه لا لا ..لكن..إجازتي غداً هل انتهيت من عملك في ألمانيا؟”
“نوعاً ما، غداً علي تسليم بعض من الأوراق ثم أعود إلى الدنمارك”
“ما رأيك في الذهاب إلى البندقية؟”
ينظر إلى سقف غرفته متعجباً، أحتاج صديقاً…وأحتاج راحة من السفر..فأسافر؟ لابأس! ، يبتسم في سره “نعم، لم لا؟”
“ألقاك في  المطار بعد أربع ساعات”
يهز برأسه ويذهب ليشرب قهوة الصباح!
يصل المطار ولا يحمل معه سوى جيتاره الصغير في حقيبته الخاصة. يراها هناك، لكن في ملابس أخرى، كم تؤثر ملابسنا  في فكرة الآخرين عنا!
يبتسم لذات الرداء الأزرق، تخبره عن الرحلة القصيرة، يوم واحد في إيطاليا، وسيختاران هناك أماكن السفر.  في وقت قصير أصبحا في إيطاليا القديمة، إيطاليا الرومان المشهورة بكل ما هو لذيذ!
“ماذا سوف نفعل في البدء؟” قالت وهي تنظر إليه بشقاوة الأطفال
ما رأيك أن نتناول فطوراً إيطالياً بامتياز؟ قال وهو يتأمل تقاسيم وجهها المرح. هزّت برأسها وأمسكت بيديه وركضا سوياً.
لم يشعر بذلك الإحساس منذ زمن بعيد، أن يكون حراً من نفسه، أن ينسى كمية الأثقال والهموم المتراكمة على عاتقه ويذهب بسعادة ليتناول المعجنات على الفطار!
كابتشينو، فرابتشينو، آل بتشينو..
كل ذلك في إيطاليا..
برج بيزا المائل، السماء الزرقاء، الناس يتكلمون ويحركون أيديهم بكثرة..كل ذلك لاحظه دانيل وإيليا..أصبحت الساعة السابعة مساءًا وهما يتحدثان معًا عن مشاعرهما وأهدافهما القريبة والبعيدة..
أنت تكون قريباً لشخص عنك غريب، أن تشعر بالسعادة في خضم الضياع.
“كثيراً ما يتحدثون عن الغروب، لا أحبه! هو النهاية، الموت، البطء..أحب الشروق، ألوان الشروق الجميلة، بدء النهار، ولادة جديدة، أمل جديد…أريد مشاهدة الشروق في البندقية، هل تذهب معي؟”
يبتسم، ينظر إليها وعيناه تبتسمان، “لم يبقى إلا ذلك، فلم لا؟؟”
يتوجهان إلى البندقية، المدينة العائمة، يركبان في قارب، ويجذف بهما السائس!
كل شيء طاف فوق سطح الماء، كل شيء ينعكس على موجات رقراقة صافية، ينظر إليها وهي تلامس بيديها الماء، تبادله النظرات وتضحك، “هل كان يوماً جميلاً ؟”
“أعدك أني سأكتب عنه قريباً! ”
يخرج الكاميرا من جعبته، يلتقط صوراً للمدينة العائمة، وصوراً لذات الرداء الأزرق، “سأسميها السيدة الزرقاء، ما رأيك؟”
تنفجر ضاحكة ثم تأخذ منه الكاميرا وتصوره في ذلك القارب مع السائس العجوز العابس، تشرق الشمس..
تنظر إلى أشعة الشمس تنعكس على مياه البندقية بلطف، راسمة لوحة فنية ساحرة، تندمج فيها حرارة الشمس وبروده المياه، الأمل الجديد وآلام البارحة، الأبيض والأزرق..كل ذلك في عتمة الليل الطويل الزائلة.
تلك الصورة، يسميها “سيدة البندقية” يعلّقها على حائط مكتبه، بجانب مئات الصور الأخرى. يغلق باب مكتبه متوجهاً إلى المطار مرة أخرى، العمل يناديه.
وعلى المكتب توجد ورقة صغيرة تقرأ: “كان أجمل شروق شهدته حتى الآن، حتى الشروق التالي، حافظ على ابتسامتك، صديقتك..إيليا”.