يفتح عينيه المتعبتين على مضض، ينظر إلى الساعة على معصمه، إنها الساعة الواحدة ظهراً، عليه أن يكون في المشفى بعد ساعة واحدة.
يغتسل بالماء الباردة، الغاز مكلّف هذه الأيّام، يرتدي ملابس الأمس نفسها، ليس له رغبة في تغيير مظهره مرة أخرى. ينظر إلى المرآة، يسّرح شعر رأسه، ينظر إلى الشعر الأبيض المتناثر، يبتسم.. “هرمنا، ومازلنا تحت الصفر.”
يحمل معطفه الأبيض “المجعلك” كما يحبّه، يضع السماعات في أذنيه ويخرج. يسمع صوتها، هو لا يسمع الأغاني العربيّة إلا نادراً، لا يعرف لماذا.
كانت الأغنية عن الفلسطينين ووضعهم، لكن في هذا العصر، كلنا واحد..فلسطينيون ..سوريون..أو أيّا ما كان لون جواز سفرك الذي يقيّدك.


يصل إلى المشفى، الوضع مزري كالعادة، ما العمل..يدخل إلى غرفة الجراحة في مشفى الطوارئ، ينظر إلى المرضى، كلّ حالة هنا تدفعك للهرب إلى بلاد أخرى..
ينزع السماعات من أذنيه، يرتدي القفازات، يفحص الجرح في يد الجدّ الكبير، يسأله عن وضعه وكيف حصل على هذه الندبة وتلك، يجيبه الجدّ، ثم يقول له مستغرباً لهجته ” أنت سوري؟” يبتسم ويهزّ برأسه، يبتسم الجدّ ويقول الجملة المعتادة، ورغم سماعاها كثيراً إلا أنّها من فم هذا الحاج، كانت …بغير رنّة، ” أحسن ناس، ربّنا يفرّج كربكم يا ابني.” ابتسم وأقول “إن شاء الله يا حاج، هلق لح أحطلك مخدّر وأخيطك..” يهزّ برأسه، “استحملنا يا حاج” يبتسم ويقول “أنت استحملنا يا بني، ربّنا يسلم يديك ويجعل عليها شفاء الكثير من الناس.”
يضمد له جرحه، بعد الانتهاء..يبتسم ويسلّم عليه “شكراً يا بني، ربنا يسلم يديك”. يبتسم له وينتقل إلى الحالات الأخرى
ينتهي وقت عمله، يخرج من المشفى، يخلع المعطف الابيض، يضع السماعات في أذنيه ويمشي ..إنّها الساعة الثامنة مساءً…
يمشي في ذلك الشارع المسمّى “البحر” ينظر إلى الناس حوله، السعادة، البؤس، الشقاء، الابتسامة على وجوه الأطفال..ينظر إلى كل تلك الأماكن التي تحمل ذكرياته..يشتاق إلى بيته القديم، يذكر أولئك الأشخاص الذين يحتاجونه هناك..
يذرف بعض الدموع، شيء دخل في عينه بالتأكيد..يدخل إلى المنزل مرة أخرى..يفتح البرّاد، يسخّن وجبة الحساء، يحتسيها على مهل..
ينظر إلى الساعة على معصمه، إنها الساعة العاشرة مساءً، يفتح حاسوبه الشخصي، يتنقل بين الشبكات الاجتماعية، الدرج السفلي حيث تكمن علبة الدواء، فارغ..
يستمر في الاستماع إلى الموسيقى..يحاول أن يكتب القصة التي أرادها…لا يستطيع..
ينظر إلى صوره مع صديقه الحميم الذي لم يسمع صوته منذ ثلاث سنوات..”لم أنت ؟ ألم يجد العالم أحداً غيرك ليجرّك إلى المجهول…لقد كنت لي عوناً.”
يغلق حاسبه، يستلقي في فراشه، ينظر إلى حائطه حيث علّق ما بقي معه من ذكريات..هل سيأتي يوم يصنع فيه ذكريات جميلة؟
يغمض عينيه، يبتسم.. يذكّر نفسه بأسماء أصدقائه الذين ماتوا، يتذكّر كل الأيام السابقة..ينام هامساً اسماً واحداً…