مرتديًا بنطالي الأزرق اللون، والتي شيرت المماثل له، توجهت بعد يوم طويل إلى محطة سبرباي، لرحلتي الثانية نحو تيرابنوب. المحطة الخالية من كل شيء.. إلّا بائع الصبر…هل لي بقليل منه؟
سبرباي؟ تيرابنوب؟ أسماء غريبة لأماكن بعيدة في هذه البلاد الغارقة في الظلال، توجهت في المحطّة سائلًا عن أماكن وقوف باصات المحلة الكبيرة، وهي وجهتي الأولى في الرحلة الطويلة. توجهت إلى الباص وطلبت من السائق إنزالي عند باصات محلّة أبو علي! المحلات كثيرة هنا. ركبت في المكان الأخير بجانب شاب وقرينته، ورائنا تجلس أم وابنتها الصغيرة، وزوجان حديثا العهد بالزواج، مع طفل صغير لا يتجاوز عمره البضعة أشهر. بعد أن بدأ الباص بالمشي، وبنظرة غير مقصودة مني، لمحت الشاب يمسك يد الفتاة التي معه بحبّ وشدّة غريبين، لم أرَ ذلك من قبل أمامي، الواقع غير الأفلام فعلًا! تستطيع أن تحسّ بالمحبّة المتدفقة منهما معًا..كان يمسك يدها كأنّها المرة الأخيرة التي يمسكها بها، ثم انحنى وقبّلها بكل شغف.. لم أستطع أن أخفي ابتسامتي وتلفتت مسرعًا، هل يعتبر هذا تجسسًا على خصوصية من يجلس بجانبك؟
على الرغم من أنّي لا أحب الملامسة الجسديّة مع أيّ كان، من المصافحة إلى العناق، إلّا أنّي لم أشعر بسوء برؤيتهما فرحين معًا.sheldon-2ذكرني ذلك بقول ل سكارليت جوهانسون في فيلم “كابتن أميركا” حيث كانت تريد التخفيّ وقامت بتقبيل كريس في مكان عام، مما أثار عجبه، لتقول له “الناس تخاف من التعبير عن مشاعرها في أماكن عامة، وتبتعد عمّن يقوم بذلك”. ربّما هذا صحيح، لكن لم أشعر به سكارليت! أنا آسف.
yeaبعد لحظات بسيطة حدث ما سيجعلني أغيّر رأيي كليًا، فقد رن الهاتف الخاص بها، فإذا به يحرك يده الأخرى، الحرّة من يدها، ويخرج الهاتف من حقيبتها ويكتب الرمز السري ويغلق الهاتف. هل من الضروري من أجل أن نحب بعضنا البعض أن نعرف هذه الأشياء الخاصة؟هل يجب أن يعرف كلمة المرور الخاصة بها على الفيسبوك؟
أخرجت كتاب قصة الكون لجون غريبين، فهو أمتع من قصة العشق الممنوع الموجودة بقربي، وأكثر قربًا لحياتي وواقعي المرّ..حلو!
لم أستطع تجاوز عشرين صفحة حتى تعبت من الطجطحة المستمرة للباص على الطريق الطويل للمحلة..ولكن وصلنا في النهاية وانطلقت إلى محلة أبو علي في باص آخر…
نزلت في المحطة الأخيرة، بحثًا عن باص يتوجه إلى تيرابنوب، رآني أحد السائقين وقال لي “مافيش باصات تيرا دلوقتي، تعال معاي الزيات وتاخد من هناك تيرا” هززت برأسي واستمريت في المشي، تعلمت في مصر أن لا أسمع كلام أول شخص أجده في وجهي، حيث أنّ احتمال صحة كلامه هي 0.000004% بعد دراسات طويلة علمية تخيليّة واسعة.
بعد أن مشيت خمسة أمتار، وجدت باصي المنتظر، صعدت وانطلقنا. في الباص سألت عن الأجرة، فسألني الشخص الجالس أمامي “انت رايح تيرا ولا بنوب؟” هنا صُدمت أنا، حيث أنّي اعتقدت أن تيرا هي بنوب وبنوب هي تيرا، لأكتشف لاحقًا أن بنوب أقرب إلى طنطا من المنطقة المدعوّة تيرا، المهم، عرفت مكان وصولي أخيرًا!
ترجلت من الحافلة ومشيت حاملًا حقيبتي السوداء بخطوات بطيئة، مستمتعًا بالجو البارد عكس طنطا الحارة، ومالبثت أن رأيت العم عمران، أخ مضيفي سامر، رجل في الخمسينات من عمره، كث الشارب، غزا الشيب معظم شعر رأسه، وعباءته التقليدية نظيفة وبسيطة، قام مهللًا ومسلمًا “ازيّك يا دكتور الحمدلله عالسلامة عامل ايه، أنا زعلان منك أوي ..انت قطعتنا ليه كده”
”  الحمدلله أنا بخير، بس مشغول بالمشفى وكده يا عم أنت اخبارك ايه” وقضينا الخمس دقائق المعتادة في السؤال عن الحال والكيف.. ثم جاء سامر، سلّم علي وأخذني إلى منزله، حيث جلسنا على البلكونة الهادئة، ذات الهواء البارد المنعش، بعد مرور نصف ساعة من أحادثينا، جاء العشاء! “يا الله يا دكتور والله انا شويت السمك ده مشانك” كان يتكلم بعض الكلمات السورية بحكم عمله في الخليج، جلسنا سويًا وتربعنا على الأرض وأكلنا السمك والرز مع السلطة اللذيذة فعلًا، لم آكل طعامًا منزليًا منذ زمن بعيد. بعد أن انتهينا من العشاء جلسنا في الخارج، أشعل سيجارته، وبدأ الحديث الفلسفي المعتاد بيننا، عن الشعوب وأطباعها واختلاف الشعب المصري عن غيره، والقوانين الموجودة في الخليج، والشعب الراقي هناك، ووووو…
أخذنا الحديث أكثر من ساعتين، ثم انتبهت إلى الوقت، أصر عليّ أن أنام في منزله، لكن لديّ كثير من الأوراق لأعملها غدًا، خرجت من المنزل ودعته وأوصيته بالسلام على أهلي بعد أن أخذت الأغراض التي أوصلها لي منهم من هناك..بعض الأشياء كانت من سوريا…أشياء صغيرة، لكن قيمتها كبيرة جدًا، هي لمست يدا أمي وأبي، وبعضها من سوريا…
ركبت الحافلة وانطلقت رحلة العودة…

كل ما فكرت به…لا شيء يعجبني…أريد أن أبكي…