“سنلتقي مرةً أخرى، هذه المرة ستكون في المنتصف، ما رأيك؟ هذه المدينة تبعد عني ساعتين ونص، وعنك كذلك، دعنا نلتقي هناك الأسبوع المقبل.”
“تبًا..أنت على حق..حسنًا..سأحاول أن أخرج..”
لا أريد الخروج فعلًا، لا أريد الغرق في محيطٍ من الاضطرابات التي ترافق هذه اللقاءات.
أنا أحمق كبير، أعترف بذلك، أنا لا أعرف ما أريد، ولا أعرف أين أنا..أنتظر دومًا، الانتظار صعب..شيء جديد في حياتي كهذا سيغير إيقاع الموسيقى التي تعوّدت أذنيّ على سماعه، لم أشفى بعد من آخر جرحٍ تلقيّته..لماذا الآن إذًا ؟

ارتديت ملابسي، حزمت حقيبتي، شاحن الهاتف، الكتاب، ودفتر الملاحظات الصغيرة. وصلت المحطة، القطار تأخر ساعتين..ما العمل؟ أركب في قطار آخر، لأذهب لمدينة أخرى، أقفز بين المدن كما يقفز العصفور على الأرض بعد هطول المطر.
المحطة الأخيرة قبل القطار الأخير..محطة مهجورة، دخلت مقهىً صغير، أحب المقاهي الصغيرة… أتمنى في يومٍ من الأيام أن يصبح لدي مقهىً مفضل ، أدخله فأهز رأسي للنادل الذي أصبح صديقي المفضل، والذي أتحدث معه عن صعوبات الحياة في مجالي ويحدثني هو عن القصص التي يسمعها من المسافرين، ومعًا نخلق قصصًا رائعة. أجلس فيحضر لي مشروبي المفضل دونما حتى سؤال..يومًا ما ؟
أشتري قطعةً من الحلوى وكوبًا من القهوة، أجلس على الطاولة، أفتح دفتري الصغير وأكتب..

“غريب هو ذلك الشعور الذي ينتابني عندما أرى من يجر حقائب السفر ذات العجلات
هم يبدون كالمسافرين المحترفين، ربما صوت العجلات، ربما رائحة جلد الحقائب..ربما كل ذلك معًا..”

DF44fp0W0AIHTfpأكره الانتظار، لكن لا بد من الانتظار..لا بد..
أركب القطار الأخير، 16 ولدًا في رحلة مدرسية في مقطورتي.. ما هذه اللعنة!
الولد يتكلم السلوفاكية، مرافقته، أو معلمته، ألمانية وتطلب منه الحديث بالألمانية معها.. بعد ساعة ونصف ..يغادر الفتى القطار، لكن قبل أن يغيب عن بصري أقول له “دوبري دوبري” وينظر إليي بعينٍ كلها الدهشة “أنت تتكلم السلوفاكية” ويستمر القطار بالمشي.
أصل إلى مدينة المنتصف، منتصف الطريق، هناك كانت هي، هذه المرة اكتسى بشرتها السمراء حمرة لطيفة عند رؤيتي، هي تخجل إذًا! هذا جديد!
ماذا سنفعل؟ هل تعرفين المدينة؟ تهز برأسها نافية..طبعًا…كيف أثق بجنس حواء بعد الآن؟ نمشي سويةً ونستكشف المدينة، الكنائس، النهر والجسر المصنوع من المنازل، الكثير من المثلجات، الكثير من البيتزا في كل مكان.
في الساحة الرئيسة، كان هناك، تداعب أصابعه  أصابع البيانو، ومعًا يرقصان، ولرقصهما صوت رهيب فعلًا..كانت تنظر مليئةً بالدهشة، كانت سعيدةً حقًا، تمنيت حينها لو أني ألعب البيانو، لكن لا بأس.
جلسنا سويةً، لم نتحدث كثيرًا هذه المرة..ثم تذكرت! علي شراء هديةٍ لصديقةٍ في عيد ميلادها، هيا بنا نتسوق! ساعتان كاملتان من الركض بين المتاجر المختلفة، غريب كيف يكون للتسوق طعم آخر أحيانًا!
في النهاية، تناولنا المثلجات ونحن نمشي باتجاه المحطة، أخرجت تلك الحلوى التي أفضلها “الماكرون”  كانت خائفة منها، ثم تذوقتها..قالت أنها أعجبتها، لكني لا أعتقد ذلك.
كان الوداع هذه المرة تلويحًا بالأذرع من بعيد، صعدت قطاري، وابتسمت. جانبي طالبة في السنة الرابعة، تدرس الجراحة الوعائية، تكلمنا عن الشرايين السباتيية والتصوير بالأشعة فوق الصوتيّة.
لم أركب الباص مثل كل مرة نحو المنزل، بل مشيت..ومشيت..ومشيت..
وحينها عرفت أنّ لا شيء بعد الآن سيبقى كما كان.