أتنفس بهدوء، أنظر في عينيها الساحرتين ثم أقبّل ثغرها  مغمضًا عيّنيّ، سابحًا في فكري، تائهًا في كلّ ما جرى وكل ما سيجري. أفتح عينيّ مرةً أخرى لأنظر إلى وجهها المُشع حبًّا. يبدو أنني لم أمت بعد.
الحياة قصيرة جدًا، تخبرني وهي تنظر إلى البحيرة الممتدة أمامنا، بقطرٍ يزيد عن ٣٠٠ متر، الماء الأزرق الصافي، الأشجار المحيطة بنا، وطيور البطّ التي لا تتعب من المشي باحثةً عن اللاشيء. تقول لي بصوتٍ هادئ  “أعرف أنّك قد سافرت وعايشت الكثير من المغامرات والكثير من التجارب السيئة في حياتك، لكن عليك أن تعلم أنّك لن تعيش حالتين متشابهتين مهما حاولت.” أنظر إليها، هي واثقة من نفسها، أو تبدو كذلك على الأقل. تمد يدها إلى جيب معطفها الرمادي، وتخرج علبة السجائر الزرقاء، بهدوء تعطيني إحداها.
“شكرًا، لكنّي أقلعت عن التدخين.”
“أوه! منذ متى؟ دائمًا ما قرأت لك، تتغزل بسجائرك أكثر من تغزلك بالفتيات الكثيرات اللواتي سحرتهن!” ثم تنطلق ضحكة، شبه ساخرةٍ منها، أبتسم نصف ابتسامة “كله وهم يا عزيزتي، نصف ما أكتبه وهم..”
“حتى إلينا؟”
لماذا ذكرت إلينا بالتحديد؟ لماذا؟ إلينا غيّرت حياتي تمامًا، إلينا علمتني الكثير، إلينا أعطتني ما لم يعطيني أحد من قبل…إلينا آمنت بي عندما كفر بي الجميع، ورموني في غياهب بئر النسيان المظلم.
“حتى إلينا، كلها بضع كذبات من رجل فقد إيمانه بالحقيقة، فانتهى به الأمر منغمسًا في الخيال..صدقي ذلك أو لا تصدقيه، أنا لم أواعد خلال السنوات الستة الأخيرة أحدًا”
تلتفت بهدوء، ودخان سجارتها يملئ المسافة القصيرة بيني وبينها، حاجبها يرتفعان وعيناها تقولان “كاذب”، تضحك قليلًا “على الأقل كنت مع نفسك”
“هههه، هذا أسوأ، أكثر ما أكرهه هو نفسي يا عزيزتي ديانا”
نقف سويةً عند تلك البحيرة، اجتمعنا اليوم لمناقشة كتاب قرأناه سويةً، كتبه أحد الأصدقاء، عن الخيبة التي ترافق الحب، لكن يبدو أنّ كلانا قد فشل في التوصل إلى ما يريد الصديق.
“هل ترغب بشرب القهوة؟ حدثني عن قبلتك الأولى دانييل”
تبًا، عن أي سؤال أجيب؟
“فلنشرب القهوة، أيّ قبلة أولى؟”
تلقي بعقب السيجارة أرضًا وتهرسها بعقب حذائها ذي الكعب الطويل، تنظر إلي وتبتسم “أعرف متجرًا قريبًا من هنا، قهوته هي الأفضل في برلين.”
يرن هاتفي المحمول، إنّه سامويل، يا إلهي لم الآن يا سام؟
أهز رأسي بهدوء، وأرد على الهاتف، سامويل يخبرني أنّ صديقنا المشترك ميشا سيسافر غدًا، ولا بدّ لنا من توديعه، فهو عائد إلى أمريكا.
نجلس على طاولة في زاوية المقهى، تطلب قهوة مع الحليب، أطلب القهوة السوداء وأمازح النادل “سوداء مثل حياتي!” لكنه لا يضحك، يبدو أنّ هذه النكتة تصبح مملة بعد الطلب السابع والتسعين.
تخرج صورةً لها مع شاب طويلٍ أسمر اللاحة، بشعرٍ بنيّ وهيئة تشبه من يعيش على ضفاف المتوسط. “إيطالي؟”
“لا، من الجهة الأخرى من المحيط، كنا معًا لفترة تزيد على عامين ونصف، قبلتنا الأولى كانت بعد شهر من لقاءنا الأول، كانت ساحرةً حقًا، إنّه ماهر! آه من لذة شفاهه الحلوة! ”
ترتشف القليل من فنجان قهوتها وتغمض عينيها، إنها تتذكر تلك اللحظة بالتأكيد،  بعض الروائح تؤثر على ذاكرتنا، ربما كانت معه في مقهىً قبل ذلك، وتذكرته، ربما…وربما..
“لماذا تركت إلينا يا دان…إن سمحت لي أن أناديك بهذا الاسم طبعًا..”
“بالتأكيد، مم…لا أعرف..تبددت مشاعر الحبّ بيننا…صدقًا لا أعرف..كلّ ما أعرفه أنّ ذلك كان صعبًا على كلينا..”
تنظر إليّ وتبتسم، شعرها الأسود المنسدل على كتفيها، تلك القلادة التي توسطّت عنقها وأحمر الشفاه بلون التوت البريّ.
أقلب الصفحة، أذكر عينيها مجددًا…تبًا لك يا صوفي..أدخن السيجارة التاسعة، وأنظر من نافذتي إلى الكنيسة المجاورة، يرنّ جرسها معلنًا ضياع ساعةً أخرى من حياتي. ألقي بقلمي بعيدًا..أغمض عيناي..
سأسافر للقاءها في برلين غدًا، لا بدّ من ذلك.