يمشي والثلج يضرب وجهه بقسوة، لا يكترث لصوت تنفسه المضطرب ومرضه الملازم له منذ ثلاثة أيام، يسعل ينظر يمنة ويسرة، لا يرى أحدًا، يستمر في المشي حتى يصل إلى القطار الأزرق الذي ينتظره. يخرج هاتفه الجوال من جيب معطفه الأسود، الذي لطّخه الثلج بنتفٍ أبيض. ينظر إلى صورتها الجديدة، يبتسم.
يصل إلى المنزل، يخلع معطفه ويرميه على أرض المطبخ..يعطس ويتوجه إلى سريره الدافئ، الوعكة الصحية ستطول هذه المرة كما يبدو. يصبح عاريًا، يجلس على طاولة مكتبه، يبدأ بالكتابة، تهرع الكلمات خارجةً منه، يريد أن يكتب عن قبلتهما الأولى، عن المرة الأولى التي سافرها فيها معًا، عن حبهما الغبي، ثم كتب عن الخلاف الذي أنهى كل شيء.
لم تسعفه الكلمات، ناءت بنفسها عنه وتركته، عاريًا وحيدًا مريضًا على مكتب خشبي يبلغ من العمر ستة وثلاثين عامًا..
الكثير من الهراء، الكثير من الأخطاء، الكثير من التعب، لم يعد يتعرف على وجهه في المرآة.. كم مرةً غيّر وجهه؟ كم مرةً ارتدى قناعًا ورمى الآخر خلف الطاولة؟ أكوام متجمعة، تبدو مخيفةً، وجوه تخلو من جميع التعابير، فقط التعب، الشيء المشترك الوحيد بينها هو النظرة الميّتة نفسها على الوجه المختلف. يسمعها أحيانًا في الليل تحدثه، تخبره بمغامراتها ، وتذكره بتاريخه الحافل، بعشيقاته وبحيواته الأخرى..كاتبًا مرةً، صحفيًا مرةً أخرى..وثالثةً طبيبًا ..وأخرى جراحًا للعظام..كلها حيوات مختلفة، كلها تنتهي وتصب في البحر نفسه، بحر اليأس الذي لا ينتهي. حياة واحدة لا تكفي كونديرا، لأننا لا نستطيع أن نقارن بين القرارات المختلفة، لكنّه مخطئ.. حتى لو أُعطينا أكثر من حياة، سنستمر في نفس الطريق، رغم كل الوجوه التي ارتداها، لم تتغير خياراته يومًا..دوما ما انطلق في اتجاه التدمير الذاتي، ليبدأ بعدها حياةً جديدة، دونما أي أمل في الاستقامة.
لو كانت النيرفانا حقيقةً، فلن يصلها أحد..هكذا كان اعتقاده وإيمانه، كان قد فقد كلّ الإيمان بكلّ ما لا يراه..أكاد أستطيع رؤيته الآن، يجلس في حوض الاستحمام، بيد يدخن سيجاره الكوبيّ الفاخر، وبالأخرى يحمل كاسًا من الرم المعتق..كان يلقي رأسه إلى الخلف مغمضًا عينيه السوداوتين، ويطلق تنهيدة طويلة…
غدًا يوم جديد، واليوم موت آخر. يعلو صوت السماعة الذكية، مطلقًا صدى أغنية توم وايت..
حتى الجدران تسقط!
https://open.spotify.com/embed/track/5yEpB2g3CbuVk4YmAkzkOK