تتغنى كنيف ببرلين وجمالها في كثير من الأغاني، فهي لها حقيبة هناك ووجه برلين المشرق مليء بالنمش الجميل، وطالما سمعت أغاني هيلديغراد في مصر وتخيّلت برلينها الفاتنة. معارفي الذين في برلين يقطنون وفيها حياتهم منذ شهور أو سنوات بدأت من جديد مافتئوا بالتحدث عن تسامح برلين وأنّها تختلف عن كلّ المقاطعات الأخرى في تعاملها مع المهاجرين والأجانب الجدد.
قررت إذًا زيارة العاصمة الألمانية، وكمعظم قراراتي الغبيّة في الحياة اتخذته قبل ٢٤ ساعةً فقط من السفر المزعوم، لا تقم بهذا الخطأ، لا تكن مثل فرزت!

اليوم الأول

برنامجي المفضل للرحلات والسفر هو “جوجل تريبس“، من خلاله تستطيع اختيار تاريخ رحلتك ومدتها والوجهة المقصودة فيرسم لك مخططًا لسيرك، كخطة برلين في ٧٢ ساعةً، الأماكن الأكثر أهميّة للسوّاح، أهم المطاعم، إلخ.. حمّلت خريطة برلين، أهم المعالم السياحية وطريقة التنقل الأفضل، بالطبع هنا عليك أن تشتري بطاقة برلين اليوميّة والتي تكلّف ٧ يوروهات في اليوم.
لكن كيف تصل إلى برلين؟ الحلّ الأسرع والأرخص من مدينتي الحبيبة ، تسفيكاو، إلى برلين كان الباص الأخضر. باص أخضر مختلف! يكلّف ال Flixbus بين ١٤ و١٨ يورو تقريبًا في الرحلة إلى برلين والتي تستغرق أربع ساعات إلا قليلًا.
كان موعد الانطلاق الساعة الرابعة فجرًا وخمس دقائق، انطلقت من منزلي حوالي الساعة الثالثة وعشرين دقيقة صباحًا، درجة الحرارة حوالي ٣ درجات مئويّة، وصلت للمحطة في الساعة الثالثة والنصف، للأسف وصل الباص متأخرًا حوالي النصف ساعة، لم أفهم حتى الآن، لم يتأخر باص في الساعة الرابعة صباحًا؟ يا رجل الشوارع والطرق فارغة!
لم أستطع النوم في القطار، حاولت إكمال ما استطعت قرائته من كتاب ياسين الحاج صالح، ومن ثم بدأت بالاستمتاع بالمسلسل الذي لا يترك لك الراحة، رغم أنّ أول حلقتين منه مملتان جدًا، إلا أنّه يصبح ممتعًا فيما بعد، عن Maniac!

يتألف هذا المسلسل من عشرة حلقات ويتحدث عن تجربة علميّة لعقاقير نفسيّة تساعد المرضى والمصابين باضطرابات نفسية على تجاوز العواقب التي تفرضها اضطراباتهم عليهم دون الحاجة للمعالج النفسي )هناك فرق بين الطبيب النفسي والمعالج النفسي، أهم الفروق هو عدم قدرة المعالج النفسي لوصف الأدوية والعقاقير) ، بين السوداوية والكآبة المقيتة وحتى الكوميديا والتقليد المضحك لما يحصل في عالمنا اليوم تتدرج أحداث المسلسل لتتسارع بعد الحلقة الخامسة فلا تستطيع فعلًا أن تترك المسلسل، إلا لأنك وصلت برلين وحان وقت مغادرة الباص!
نزلت في ساحة ألكسندر المشهورة في برلين، بصراحة لم أعرفها من قبل سوى من كلام يمنى وكانت ترددها دومًا، اكتشفت فيما بعد أن ترديد اسم الساحة شيء عادي جدًا، فهي واقعة في مكان استراتيجي جدًا وكلما أردت التوجه والانطلاق بين محاور برلين المختلفة ستعود إلى ألكسندر.

برلين، ساحة ألكسندر بلاتز، برج الإذاعة في برلين

ألكسندر بلاتز مع برج الإذاعة الأطول في برلين، تستطيع رؤيته على بعد أكثر من ثلاثة كيلومترات وأكثر!


نزلت من الباص ضائعًا، المدينة ضخمة، يبدو أني اعتدت المدن الصغيرة يا أبي، فهذه المدينة أفقدتني الحس بالمساحات. أنا ابن بلدة صغيرة تُدعى القابون، تبعد عن دمشق ربع ساعة لكن القابون صغيرة، عشت في طنطا ومن ثم هاهنا في تسفيكاو، البلدة الشرقية الصغيرة المحاذية للتشيك، أنا لم أخُلق للعواصم، أو على الأقل هكذا أعتقد.
هنا كان علي الالتقاء بصديق مصري من طنطا الحبيبة، ضياء أو ربما حامل الضياء؟ اجتمعنا في مقهى صغير قرب منتزه جدار برلين شربنا القهوة، كالعادة قهوتي سوداء أو كما تقول أورسولا “قهوتي كحياتي”، ثم تمشينا معًا، تكلمنا عن امتحان الأبروباتسيون (والذي لا بد أن أكتب عنه هنا قريبًا، وعن تجربتي في تعديل الشهادة الطبيّة بشكل كامل) وعن رسلان، الأخ العزيز الذي أفتقده بشدة وأتمنى رؤيته مجددًا. تكلم عن حياته في برلين، عن أصدقاءه الجدد والحركات اليساريّة المتواجدة هنا، برلين ليست كغيرها، هنا الأجنبي ليس عدوًا بل صديق يساعدنا في بناء الوطن، وربما العالم فكلمة الوطن عند أقصى اليسار أصبحت تقليديّة جدًا. سُعدت بمعرفة أخباره السارة هنا، وتمنيت له التوفيق في الامتحان القادم.
أوصلني الصديق إلى باب القطار وارتحلت مجددًا إلى عند أخونا بالله ألكسندر.
f4d581ef-dd88-48a8-8298-5a4a53d33cd0.jpg
النقطة التالية كانت السفر مع صديق يمنى من أيام دراستها في برلين، فراس، ليصحبني ويرشدني في عاصمة الألمان الضخمة. في البداية ذهبنا إلى بوابة براندنبورغ، والتي يتصور بجانبها كلّ من يأتي إلى برلين، الحمدلله والشكر له كانت مغلقةً للإصلاحات، حظي الرائع أليس كذلك؟
 بوابة براندنبورغ

بوابة براندنبورغ


لا بأس، نتجه فيما بعد إلى قهوة صغيرة مخبأة في دخلوجة من دخاليج برلين الكثيرة، الجدران مزيّنة أو ملوثة في بعض الأحيان بكثير من الجرافيتي، الكثير من الألوان، الكثير من الكلمات بلغات مختلفة لتعبر عن الثقافات المتلاحمة في البيئة الألمانية، والتي لا يمكن تخيلها في أي مدينة أخرى غير برلين.

بعد ما شربنا الجينجر أيل وعصير البرتقال توجهنا إلى نقطة مهمة أخرى في برلين، جدار برلين الذي قسم هذه المدينة إلى قسمين، شرقي تابع للسوفييت وغربي تابع للأمريكان. بقايا الجدار متناثرة ومليئة كالعادة في برلين بالجرافيتي، هنا ستجد الكثير من السياح هنا، يلتقطون الصور مع بقايا الجدار الذي بزواله توحدت برلين من جديد. على أرض الواقع ، برلين ما زالت مقسّمة وستلمس ذلك في جميع المجالات سواء في البناء أو حتى في إشارات المرور.
برلين، السور، جدار، جوكر، باتمان

جدار برلين مع الجوكر وباتمان وغيرهما


انتقلنا بعدها لزيارة البرلمان الألماني، وكالعادة ووفقًا لحظي الرائع كان المكان مغلقًا للإصلاحات، تبًا لهذا العالم القذر! للأسف اضطر فراس للمغادرة بعد أن أوصلني إلى فندقي في شارع الكودام، كما تقول يمنى أما أنا فلا أعرف كيف ينطقون باسم هكذا شارع، بل وتتغنى أختنا هيلديغراد كنيف به أيضًا! وجدت الفندق طبعًا عن طريق الإنترنت عبر موقع بوكينج المشهور، بحثت عن أرخص فندق لليلة واحدة، لا أحب الهوستل، حيث تنام مع عشر أو خمس أو أكثر في غرفة واحدة.
البرلمان الألماني

البرلمان الألماني


ليلة واحدة تكلف في الهوستل حوالي ثمان إلى ١٥ يورو، أما غرفة في فندق فستكلفك تقريبًا بين ٣٥ وحتى ٤٠٠ يورو  وأكثر! اخترت غرفة بسرير مفرد في شارع كودام، أعطيت الموظف الجالس في بهو الفندق الصغير هاتفي الذكي، هنا لا بدّ أن نتكلم مرة أخرى عن تطبيق واليت من آبل، ليس سيئًا على الإطلاق. تسلمت مفتاح غرفتي، الغرفة ٢١٠، فتحت الباب لأجد غرفةً صغيرة، سرير صغير مريح، شاشة تلفاز وضوء صغير جانب السرير. للمفاجأة كان الحمام كبيرًا ويكاد يكون بحجم الغرفة نفسها، استحميت بسرعة وانطلقت خارجًا، هذه المرة إلى “شارع العرب”، لا بد من تجريب النابلسية لكن في البداية سأتناول الكباب المشوي، لا أحب اللحم حقًا لكن…المشاوي غير! هل سأعود نباتيًا؟ ربما يومًا ما !
Hotel Upper Room

غرفتي الصغيرة في فندق الغرفة الفوقانية في كودام


تناولت الغذاء في مطعم الدمشقي، يكلفك هنا طبق المشاوي المُشكّلة، أي كباب مشوي، كفته بالمصري وشيش طاووق، وطلبت بالإضافة إلى ذلك حبّة كبّة مقلية، كانت لذيذة! تكلفك الوجبة هنا بين ٥ وحتى ١٥ يورو تقريبًا، أنصحك به إن كنت في برلين جائعًا معانيًا من الحنين للمطبخ الشرقي وخاصة السوري!
يتلو الغذاء كما هو معروف التحلية وأحبها إلى قلبي الكنافة النابلسية والتي افترستها بشره آخر مرة في ديسمبر ٢٠١٧، بحثت في جوجل مابس عن المحل المشهور بنابلسيتيه الساخنة الطيبة المذاق، لم يكن بعيدًا، ثمانية دقائق فقط وأصل إلى نابلسيتي المنشودة. وصلت إلى المحل الذي كاد أن يغلق أبوابه، اطلقت العنان لقدماي وحملتني الرياح حتى أصبحت هناك.

  • مرحبًا يا باشا، في نابلسية؟
  • لا والله يا أخي، ما حاسس حالك متأخر شوي؟ تعا بكرا الساعة١٢

وهكذا عدت أدراجي إلى منتصف برلين حزينًا، دون أي نابلسية ، دون دخول أي معلم مشهور، كل شيء مغلق..طبعًا المشكلة ليست كلها في برلين، بل في الشخص الذي قرر أن يسافر في يوم العطلة الألماني الذي لا يعمل فيه أحد تقريبًا.


وصلت إلى تشيك بوينت تشارلي، هنا تمّ تبادل الجواسيس والعملاء بين الألمانيتين، هنا أيضًا يمكنك مشاهدة آخر علم سوفيتي في ألمانيا الشرقيّة. تابعت المشي في شارع فريدرش، والذي يمكنك أن تشبهه نوعًا ما بشارع الشانزليزيه في باريس. عودةً إلى المقارنة بين برلين وباريس، المقارنة شبه مستحيلة، باريس مدينة أثرية مليئة بالمتاحف والقصور، برلين اختفت ودمرت تمامًا بعد الحرب العالمية الثانية، يمكنك فعلًا أن ترى أمريكية برلين أكثر من ألمانيتها.
الساعة العاشرة مساءً، أقابل صديقًا آخرًا، طبيبًا في برلين منذ ثلاثة سنوات، هو يعشق برلين ويحب الحريّة التي تمنحك إيّاها، بعكس المدن الأخرى. “هون بتلاقي كل شي”. هذا شعار البرلينيين، لكن ربما لا أريد كلّ شيء؟ ربما أريد مدينةً صغيرةً هادئة أعيش فيها برتم حياة متناغم مع موسيقى كنيف وسيناترا ودين مارتن.
برلين، كنيسة، أضواء
ذهبنا معًا إلى إحدى البارات الصغيرة، أحب الأماكن الصغيرة المظلمة، تحدثنا عن الطب العصبي والطب القلبي، فهو طبيب قلبيّة ، تحدثنا عن الجلطات القلبيّة والأخرى العصبيّة منها وما هي طريقة التفاعل المثلى مع كل منهما، توجهنا بعد ذلك إلى كنيسة برلين لنرى الأضواء تزيّنها في ما يدعى ب“احتفال الأضواء”، ودعني صديقي بعدها ثم ذهبت إلى غرفتي الصغيرة في الشارع الذي تفتقده هيلديغراد.

اليوم الثاني في برلين

استيقظت كالعادة الساعة الخامسة والنصف، لم يستيقظ الإنسان في يوم العطلة باكرًا؟ الساعة البيولوجيّة الغبيّة. استحممت وارتديت ملابسي ، رتبت الغرفة قليلًا ثم أعدت المفتاح الكبير إلى الموظف اللطيف في بهو الفندق، اليوم سأفطر “فتة بالسمنة”، أعزائي الذي لا يعرفون ما هي الفتة، أبلغكم بكامل فرحي لشرايينكم التاجية وحزني على جهلكم بوجبة لا يمكنك تعويضها.
اكتشفت فيما بعد أنّ الشاي أيضًا مجاني في الدمشقي، لكنّ الشاي ثقيل جدًا جدًا، المدخنون يحبون هذا النوع من الشاي بالتأكيد. بعدها أطلقت لقدمي العنان، اليوم وصلت باكرًا إلى محل النابلسية، تناولت طبقي الصغير واشتريت علبتي حلوى سورية لجارتي ووالدتها الألمانيتين.
عدت بعد ذلك وتمشيت في أنحاء برلين مودعًا إياها، كارهًا بعض الشيء ومتعجبًا من ضخامة هذه العاصمة، ولاية كاملة في مدينة.
fd30989b-6201-40a4-8ec9-87d0a578da73 (2)
قبل العودة إلى تسفيكاو التقيت صديقًا آخر، صديق القضيّة الجديد، يدرس حاليًا الشهادة الثانويّة استعدادًا للدخول في الجامعة، شرح لي هنا بعض التعقيد في نظام ألمانيا ورغبته في دراسة التاريخ والسياسة جامعيًا فيما بعد، أحبّ أولئك الأشخاص الذين يسعون وراء شغفهم مهما كان الثمن. ودعني وركبت الباص الأخضر مجددًا، لأكمل آخر حلقتين من المسلسل الممتع وأنام حتى وصولي إلى تسفيكاو ، هناك وجدت جارتي الألمانية تنتظرني جانب المحطة، أوصلتني إلى البيت وأهديتها علبة الحلوى السورية الحمراء، نظرت إلي وقالت “ليس هناك داعٍ لهذه الأشياء يا فرزت ! لكن شكرًا جزيلًا!”
طبعًا كاترين، جارتي الألمانيّة، تحضر لي كلّما سافرت دولة تذكارًا أو حلوى تقليديّة، وفي السبت الماضي اصطحبتني حتى التشيك مع زوجها وتناولنا الغذاء في بلد آخر!

تسفيكاو

هوم سويت هوم


أكتب إليكم هذه السطور وأنا في قطار متجه إلى براغ العاصمة البوهيمية، في منتصف أوروبا، كيف ولماذا؟ تلك قصة آخرى.

خاتمة

عادت لينا، ابنة كاترين، من التدريب ليلًا، نزلت إلى شقة جيراني وتناولنا العشاء معًا، أختار دومًا السلطة، كاترين تحضرها مع البرتقال، وأحيانًا مع نوى البرز الأسود، وبشكل غريب هي لذيذة ولا أمل من تناولها. بعد دقائق رأت لينا العلبة الحمراء وسألتني “ممم فرزت، إذا فتحت هذه العلبة، هل سنعيش لنرى يومًا آخر؟”
تكلفة يومين في برلين: العودة والذهاب من برلين تقريبًا ٣٠ يورو، السكن في فندق لليلة واحدة: ٣٥ يورو، الطعام والشراب ليومين تقريبًا: ٣٠ يورو، بطاقة برلين اليومية ليومين: ١٤ يورو.
ملاحظة: حتى الآن لم تجرؤ لينا على فتح علبة الحلويات.