الحياة مخيفة حقًا ومذهلة، تستطيع في منطقة لاتتجاوز مساحتها١٠ كيلومترات أن تجد منزل أحد أبرز عباقرة البشرية،أحد أهم أعلام الكتابة والأدب العالمي والأوربي، حيث عمل وأنتج وبقي أثره حتى اليوم. في المنطقة نفسها تجد معتقلًا شهد موت أكثر من ٥٦ ألف شخص واعتقال أضعاف هذا الرقم.
فايمار، المدينة التي حضنت دستور جمهورية ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، المدينة ذاتها التي حضنت شيلر وجوته.
تدخل المدينة التاريخيّة لتجد تمثال جوته وشيلر جنبًا لجنب، رغم تنافسهما إلا أنّهما كانا صديقين حميمين كما تقول المراجع. هدوء، هذه الصفة التي تتمتع بها المدينة بشكل كبير، هدوء المدينة وربما نوفمبر البارد أيضًا.
أحب التفاصيل الصغيرة، نوافير المياه المنتشرة في أحياء فايمار المختلفة، سلال الورد المعلّقة على النوافذ. لا تبتعد كثيرًا عن وسط المدينة لتجد منزل جوته والمتحف الذي جمع مقتنياته العديدة. جوته لم يكن فقيرًا أبدًا، من يدخل بيته يعرف ذلك حتمًا.
تدخل بعدها منزل جوته لتتفاجئ بكم هائل من التماثيل واللوحات التي تزين زوايا منزل الأديب العظيم، تشاهد من بعيد الغرفة التي كانت تُرسم فيها حروف روايات وكتب غيرت العالم حينها ومازالت تغيره. لوحات أخرى تبين عائلة جوته، زوجته وأطفالهما. كثير من صور الدوق كارل أوغست، حاكم ساكسن وفايمار حينها.
في زاوية أخرى ترى بيانو كبيرًا كان يعزفه جوته لضيوفه عند رغبته في إبهارهم. تحتاج حوالي ساعةً لزيارة المنزل بشكل كامل مع الاستماع للمرشد الصوتي الذي تحصل عليه عند دخول البيت. تنتقل بعدها لمعرض جوته، والذي قُسم كما قُسمت حياة جوته، بين الحب والسياسة والعلم والسفر. درس جوته العربية وترجم بمساعدة زملائه بعض القصائد وقرأ لعنترة ولامرؤ القيس وغيرهم، أحب اللغة العربية ورسم حرفها.
كميّة الخرائط واللوحات التي تملكها هذا الرجل مرعبة، هو يأتي من عائلة غنيّة، لكنه لم يقصّر في الحصول على المال من كتاباته المختلفة وعمله السياسي والقضائي. تسلم جوته إدارة مكتبة الدوقة آنا أماليا التي تحوي أكثر من مليون كتاب، وكان صديق ابنها الدوق كارل أوغوست.
بعد الخروج من مكتبة الدوقة يعتريك شعور غريب، رباه كم عمل هؤلاء الألمان من أجل الثقافة والتحرر، جوته الذي سافر ودار ولف العالم ليصل إلى أكبر قدر من المعرفة، كان عبقريًا حقيقيًا. ولم يكن الوحيد الذي مر في فايمر، كذلك شيلر، بل حتى باخ ! ولو أن باخ ارتكز في حياته أكثر على لايبزج.
في الشتاء ينتهي كلّ شيء في ألمانيا في الساعة الرابعة مساءًا،أو بصيغة أدبيّة أكثر “كل الأحلام تنتهي عند الساعة السادسة عشر”. لذلك وصلنا إلى آخر نقطة في رحلة فايمر، الذهاب إلى بوخنفالد، مكان لا يبعد أكثر من عشرين دقيقة بالباص عن مركز المدينة.
في الطريق إلى بوخنفالد يبدأ جسمك بالتغيّر، ربما بسبب اسم المكان السيء، ربما بسبب هرمونات جسمك التي تهيئك لشيء لم تكن تتوقعه من قبل، ربما الكورتيزون، ربما وربما… تصل إلى المكان النائي، لا شي هنا، لا شيء
تستقبلك البوابة الكبيرة بعبارة ألمانيّة تقرأ Jedem Das Seine، وهي بالتالي ترجمة حرفيّة لجملة لاتينيّة مشهورة: Summ cuique والتي تعني بدورها: لكل شخص ما اقترفه. على باب معسكر بوخنفالد تعني هذه الجملة أنّ كل من دخل هنا، كلّ من مات، كل من اعتقل، كل هؤلاء استحقوا مصيرهم الأسود. منذ هذه اللحظة تبدأ معدتك بالتخبط، حكم النازيون على ملايين الأشخاص مسبقًا بسبب جنسيتهم، دينهم أو انتمائهم السياسي بلحظة واحدة.
مساحات واسعة، لوحات كثيرة تبين أماكن المعسكرات المختلفة، في النقطة ٦٣ المعسكر الصغير، هنا احتجز النازيون المراهقين والأطفال، الكثير من الأطفال. هنا حُجز مئات الأشخاص في مكان أعد لعشرين شخصًا. تنتقل ماشيًا بين المساحات الواسعة، تستشعر الأرواح التي قطنت هنا، العذاب التي مرت به، الضرب والصراخ، الألم والساديّة التي كانت جرحًا أليمًا في تاريخ البشريّة.
تدخل أماكن المعسكر الأخرى، تتأمل ملابس المساجين المختلفة وأرقامهم، هنا أنت فقط رقم، لوحات المسجونين وصورهم. وثّق الألمان كلّشيء، كما هي عادتهم، صور الموتى، صور المساجين مع أرقامهم وتهمهم. الأعمال الشاقة التي كانوا يقومون بها لخدمة السيدة كوخ، زوجة رئيس المعتقل الساديّة التي دخلت تاريخ البشرية كإحدى أكثر النساء شرًا. تصوّر أنّها كانت تأمر بقتل المساجين الذين يحملون “تاتوهات” تعجبها، لتصنع من جلدهم أغلفة لكتبها المفضلة.
هنا ترى الأحزمة المصنوعة خصيصًا لأولئك الذين يصابون بالفتق الإربي، ليس للعناية الطبيّة، بل لإجبارهم على إكمال عملهم رغم ألمهم ومعاناتهم النفسية والجسدية.
الكثير من التعب النفسي يصيبك بعد المشي ورؤية ما يمكن للبشرية أن تصل إليه من انحطاط أخلاقي وساديّة لا تبرير لها إلا المرض النفسي الجماعي لأمّة آمنت بأنّها المختارة فوق الجميع. تستغرب أنّ جزءًا كبيرًا من أولئك الذين وقع عليهم الألم والتعذيب، يقومون بدورهم اليوم بتعذيب غيرهم وحرقهم بقنابل فوسفوريّة بدل فرنٍ صُنع في إيرفورت.
تخرج من بوخنفالد كارهًا ألمانيا وفايمر، تمر مجددًا أمام بيت جوته، تندهش مجددًا، في رؤيتك لطرفي البشرية المختلفين، العبقري الذي تعلّم اللغة العربيّة وكتب الشعر والأدب وصادق الدوق وحكم، والآخر الذي أمر بقتل الآلاف لمجرد اختلاف في الرأي.
لاتكره الألمان بعد ذلك، بل تكره البشريّة كلها، وتعتقد في ذاتك أنّ البشر في ذواتهم يحملون، جميعًا، نواةً يمكنها في الظروف المناسبة أن تحولهم إلى حيوانات، أو إلى مخلوقات أبشع حتى من الحيوانات المفترسة.
قرأت مقال قديم عن فايمار وبيت جوتة وتمثاله ومتحفه.. رحلة تحسد عليها، عندي تعليق
لا أعتقد أن البشر يملكون نواة شر في ذواتهم.. أعتقد يملكون قابليات للشر أو للخير ببساطة.. وأعتقد أن تعقيدات الحياة أو ما اعتبره روسو الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية ترفع من حظوظ قابليات الشر بشكل كبير مقابل الخير الذي يحتاج في ظل هذه التعقيدات لجهد أكبر لكي يسمو من قبل الأسرة والمجتمع..
لم أقصد وجود نواة للشر فحسب، الإنسان هو في النهاية قابل للقولبة نحو الخير والشر، ولو أنّ الخير والشر نسبيّ ويختلف من ثقافة إلى أخرى حتى.
عندما تمر في بوخنفالد، يتولد لديك، نفسيًّا ذلك الشعور بشر البشر، ولو قرأت عن الهولوكوست وجرائم النازية، ضد الجميع وليس اليهود فحسب، فستجد فرقًا أكبر عند تواجدك الفيزيائي في المكان ذاته، أو هكذا حصل معي.
جميل ..
لكن لمَ ختمْتَ بنواة الشر ..
هل لأن الشرّ أشد وقعاً في النفس وألماً في الذاكرة ؟
شكرًا!
أعتقد أن وجود الشخص الفيزيائي في تلك المنطقة ربما ينعكس بشكل ما على نفسيته، شخصيًا لا أؤمن بأنّ البشر يولدون أشرارًا أو أخيارًا، بل تلعب البيئة المحيطة والثقافة التي يتربى فيها المرء الدور الأكبر في تنمية الوازع الداخلي وتوجيهه الأخلاقي. غالبًا ما تقود البيئة في النهاية البشر إلى الاتجاه السلبي عند وجودهم في محيط لا يعتبر التصرف السيء سيئًا.
بعد مشاهدتي لفيديو إلسا كوخ وأفعالها الشنيعة في بوخنفالد تعزز في ذاك الشعور، هي فعليًا لا تحوي نواة الشر بل هي الشر نفسه متجسدًا في امرأة!
[…] الصورة البارزة: مكتب جوته في فايمر. […]