العمه لغويًا، حسب القاموس المحيط، هو التحيّر والتردد، وأحيانًا التجاهل. في القرآن ورد العمه كفعلٍ في عدّة مواضع منها “وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ“. تفسيرها أرفقها لكم أدناه:

قال : وقوله : ( في طغيانهم يعمهون ) في ضلالهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه ، وعلاهم رجسه ، يترددون [ حيارى ] ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا ؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشدا ، ولا يهتدون سبيلا .
[ وقال بعضهم : العمى في العين ، والعمه في القلب ، وقد يستعمل العمى في القلب أيضا : قال الله تعالى : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) [ الحج : 46

العمى والعمه

طبيًّا العمه مختلف بعض الشيء، إلا أنّ الفكرة الأصليّة نفسها. فالمريض المُصاب بالعمه يستطيع الرؤية، لكنّه يفقد قدرة التطبيق العملي وفق رؤيته أو يعجز عن فهم ما يراه.غالبًا ما ينتج العمه عن إصابة القشرة الدماغيّة، خاصةً الفص الصدغي منها، ومن الأسباب الأخرى الجلطات الدماغيّة، الأورام، الشيخوخة والخرف.
شخصيًّا أعتقد أنّ معرفة المريض أو وعيه بهذه الأعراض سيكون صعبًا، كيف يستطيع أحدهم معرفة عدم معرفته شيئًا؟ لكنّ كنت مخطئًا.

للعمه أنواع عديدة، لكن سأذكر المثال الوحيد الذي واجهته في غرفة الطوارئ خلال عملي لمدة سنة ونيّف كطبيب عصبيّة.

كالعادة رنّ الهاتف الأسود الصغير، الذي كان مرافقي في الشهور الأخيرة. هو صديق كل مناوب في المشفى. تخبرني الممرضة أنّ هناك مريضةً في الخامسة والستين من عمرها بانتظاري في الأسفل، المريضة حالتها جيّدة ( الحالة الجيّدة تعني أن العلامات الحيويّة : الضغط، التنفس، دقات القلب، الحرارة في المجال الطبيعي)، تستطيع تحريك جميع أطرافها، وأنّها جاءت بسبب شكوى لاحظتها منذ خمسة أيام.

شخصيًّا لا أستطيع أن ألقى اتصالًا وأبقى في مكاني، لا بد من التحرك بسرعة. زميلتي المصريَة تستطيع أن “تلطع”* المريض في الانتظار لمدة نصف ساعة أو ساعة عندما يأتي بعد ٥ أيام من بداية الشكوى!
طبعًا عندما تكون الشكوى بدأت منذ أسبوع أو أكثر، بل عندما تكون الشكوى في عمر يناهز اليومين، تبتعد أفكارنا عن الأسباب الحرجة التي قد تؤدي للموت، لذا نؤدي المهام الأكثر استعجالًا أولًا ثم نتوجه للمريض.

السيدة م.


كنت عند المريضة بعد ثلاث دقائق، المدة اللازمة للقفز من مكتبي إلى غرفة الطوارئ تقريبًا. كانت السيّدة م. في الخامسة والستين من عمرها، كمثل قريناتها الألمانيات تبدو أصغر سنًّا، ملامحها الوجهيّة جامدة دون أي ابتسامة أو عبوس، ترتدي قميصًا أبيضًا طويلًا وبنطالًا زيتيّ اللون، الحذاء البنيّ كان ملائمًا لكنّ الرباط في القدم اليمنى لم يكن جيّدًا كأخيه في القدم الثانيّة. وجدتها مستلقيّة في الغرفة المفردة رقم ٧ في الطوارئ، زوجها جالس على كرسيّ بجانبها ممسكًا يدها اليمنى.

عرفّت عن نفسي مبتسمًا، محاولًا في نفس الوقت مراقبة ردود أفعال المريضة. هل هناك ضعف عضليّ؟ هل تستطيع التحدّث دون مشاكل؟ هل تسمعني بشكل جيّد؟ هل ترى يدي ممدودة للمصافحة؟ أفكار وأعراض كثيرة يمكنك معرفتها بمجرد مصافحتك للمريض، بل الأفضل أن تكون جالسًا بينما يأتيك المريض على قدميه، لتحلل مشيّته والقوة العضليّة البادية للطرفين السفليين.

ابتسمت المريضة وعرفتني بنفسها، لكن اندفع زوجها ليشرح المشكلة.
منذ حوالي أسبوع كانت زوجته في المطبخ تحاول تحضير طعام الغذاء، دخل ووجدها واقفة أمام الفرن لا تعرف كيف تشغله. كما أنّها لم تستطع في الفترة الأخيرة ممارسة هوايتها، فهي تأخذ نموذجًا معيّنًا وتبدأ بالخياطة والبناء عليه. الكلمة الألمانيّة هي Klöppeln**، لا أعرف ما الترجمة العربيّة لتلك الكلمة، فلنقل أنّه فنّ يشبه التطريز نوعًا ما. هي تمارس هوايتها منذ أكثر من أربعين عامًا، وخلال الأيام الخمس الماضيّة لم تستطع إنجاز عملٍ واحد كانت تنجزه من قبل في ساعات معدودة. لا أمراض سابقة، لا أمراض عصبيّة في العائلة.

تحدثت مع المريضة، الانطباعات الوجهيّة جيّدة، هي تفهمني وتراني بشكلٍ جيّد، تحرّك كلتا يديها وقدميها خلال الحديث، الفحص العصبي المحيطي طبيعي، تلاه فحص الأعصاب القحفيّة، هنا عند فحص المجال البصري أبدت المريضة عمّىً شقيًّا في الجهة اليمنى من المجال البصريّ، شرحت في تدويّنة سابقة العمى الشقيّ. التشخيص التفريقي الأول: سكتة دماغيّة.

الموجود السريري الأول إذًا كان العمى الشقيّ والذي يدل بدوره على إصابة الفص القفوي الأيسر. في كثير من الأحيان عند إصابة الفص القفوي/الصدغي يُظهر المريض أعراض العمه بالإضافة للعمى الشقيّ، وعمه المريضة هنا كان بعجزها عن البدء بالأفعال الاعتياديّة البسيطة التي كانت تنجزها دون تفكير، وهذا هو الموجود السريري الثاني.

الجرّاح والداخليّ

أظهر الفحص بالأشعة وجود كتلة مبهمة في الفص القفوي الأيسر، محاطة بوذمة مما يجعل الشك أكبر بورم دماغي. هنا تنتهي مهمة الباطنيّ العصبي، وتبدأ الجراحة العصبيّة بالتدخل. اتصلت بزميلي في الجراحة العصبيّة الذي أخبرني أنه سيرسل أحد الأطباء ل”معاينة الحالة”.

جاءت الطبيبة الزميلة، ألقت نظرةً على صورة المريضة الشعاعيّة ثم نطقت بالكلمات التاليّة:

سأقبل المريضة في قسم الجراحة العصبيّة، شكرًا، مع السلامة.

لم أستطع تجميع أفكاري في اللحظة ذاتها، نعم؟ كيف؟ هاااايييووو ألا تريدين رؤية “المريضة”؟ والتحدث معها؟ إخبارها بما تعرفين؟

“ليس لدي وقت”، ثم اختفت. ويسألني البعض لماذا أفضل دكاترة الباطنة/الداخليّة! فعلًا العمه!

تغريدة تظهر الفرق بين الاختصاصات الطبيّة

عدت أدراجي إلى غرفة المريضة، أستأذتنها بالحديث أمام زوجها وقبلت بالطبع، دخل زوجها مرةً أخرى، تحدثنا عن الاحتمالات الممكنة وعن قبولها في قسم الجراحة العصبيّة. ابتسمت المريضة وزوجها ابتسامة خوف، صافحتها وأخبرتها أنّها ستكون في أيّد أمينة. خرجت بشعور سيء. مالذي حصل مع السيدة م؟ لا أعرف حقًا.

*يلطع: ترك المريض ينتظر مطولًا
** مقطع من يوتيوب عن الهواية الخاصة بالمريضة، اللغة هي الألمانية لكن بلهجة شرقيّة جنوبيّة

مصدر الصورة البارزة: Pixapay