الساعة السادسة صباحًا، كوب القهوة وبضعة أوراق من كتاب “الجانب المظلم من الحب“. أنطلق بعدها باتجاه المشفى. أحتاج حوالي ٢٠ دقيقةً مشيًا على الأقدام. أحبّ المشي صباحًا، فأتنشط وأستعد للعمل.

“المريض سين، في الثالثة والأربعين من العمر، شيزوفرينيا”.

أقرأ اسم المريض، الشكوى وموعد وصوله، يبدو أنّه مريض معروف وأنّ إقامته ستكون بسيطة. بعد أن انتهى التمريض من قبول المريض يأتي دوري كطبيب. توجهت إلى سين حاملًا معي أوراقي وقلمي وعرفته بنفسي، كما أعرف جميع المرضى.

الشياح كلمة صعبةٌ لفظًا هنا، لذا أنا ” آل-شيّيا” حاليًا. هز سين برأسه وتابع:” سررت بمعرفتك، أنا سين.”

جلس السيد سين على مقعده في غرفة القبول، كان ينظر إلى الأرض بعيون زرقاء شبه ميّتة، الانطباعات الوجهيّة لا تحمل الكثير من المشاعر، جمود. مرر يده في شعره الأشقر الباهت لتستقر بعدها على سترته المخططة عرضًا، الأبيض والكُحليّ والأحمر.

“لمَ أنتَ هنا يا سيد سين؟”

وبدأ بإخباري قصته، منذ فترة شهر ونصف زاد الإحساس بالقلق والخوف عنده، لا يستطيع النوم أو الأكل أو ممارسة حياته بشكلٍ طبيعيّ، لا يستطيع القراءة أو السفر بعيدًا عن منزله.
“هل يوجد سبب محدد أدى لكلّ ذلك سيد سين؟”

“أنا أعمل في مُنشأة خاصةٍ لذوي الاحتياجات، وقد قال مدير الحلقة التي أعمل بها أنّي سأضطر للعمل ساعةً زائدةً على الوقت الذي أعمله الآن، لذا أنا خائف.”

“وكم ساعةً تعمل في المُنشأة؟”

“٦ ساعات، وستصبح ٧.”

نظرت إلى السقف محاولًا التذكر أنّي هنا في قسم وبحرٍ لا أعرف عنه شيئًا سوى ما قرأته في الكتب، ساعة زائدة ؟ أعمل كلّ يوم من السابعة والنصف حتى الخامسة مساءً. توقفت للحظة بعدها، لا يصح أن أقارن نفسي مع المرضى، حسب القاعدة الرابعة من كتاب “بيت الربّ” المريض هو من يعاني من المرض.

وما الحلّ برأيك سيد سين، كيف يمكننا التخلص من هذه المشاعر السلبيّة والخوف؟”
“أن يكون عملي ٦ ساعاتٍ فقط.”

يوم الجمعة: ٥٠ دقيقة

في يوم الجمعة بين الساعة الواحدة بعد الظهر والساعة الثالثة توجد ساعة استشارة يستطيع المريض فيها التسجيل فيها لمناقشة تطور حالته. السيد سين يسجّل نفسه كلّ جمعة، ونتناقش في كلّ جمعة عن موضوع معيّن.

في الجمعة الأولى تناقشنا ٥٠ دقيقةً، عن الحياة، عن أهميّة الخوف والفرق بينه وبين الخوف المرضيّ. ثم تحدثنا بعدها عن عمله.

يعمل سين في تجهيز علب الطرود الكرتونية، وهو الشخص المسؤول عن طباعة عنوانك واسمك على علبة الطرد. يخاف سين أنّ يفقد القدرة على الكتابة أو القراءة، يخاف كثيرًا أن لا ينجز عمله.

اتفقنا معًا أن يجرب استراتيجيات لإلهاء نفسه عن الخوف، المشي، الكتابة والقراءة. كان المشي أنجعها.

في الجمعة الخامسة أخبرني عن ماضيه، كان سين بطل ولايةٍ ألمانية في رياضة تنس الطاولة، لكن بسبب مرضه النفسيّ، الفُصام، اضطر أن يترك اللعبة. حكى لي عن مرات اضطر فيها للحجز في القسم المغلق من المشفى، كي لا يشكّل خطرًا على نفسه أو الآخرين. ومرةً أخرى حاول الانتحار بتناول الكثير من حبّات الدواء، لكن انتهى الامر به في قسم العناية المشددة ثم الطب النفسي مجددًا.

اختلفت مشاعري تمامًا اتجاه سين، لم أستطع أنّ أفهمه في البداية، لكن بتقدم الوقت وجمعةً تلوى الأخرى بدأت أفهمه، أو فلنقل أحاول فهمه. لم يتحدث أبدًا عن حالة الذهان التي أصابته، لكن في الرسائل المرضيّة السابقة قرأت عنها.

المرض النفسي ليس سهلًا، خصوصًا إن لم يفهمك من حولك.

السيد سين: أريد العودة للمنزل

بعد خمسة أسابيع، قررت مع سين أن يجرب الذهاب للعمل، ٤ ساعات فقط ثم يعود للمشفى. استيقظ مرتبكًا خائفًا يومها، ودعته وأخبرته بوجوب كتابة مشاعره في دفتر مذكراته عند عودته.

عاد سين مرتعبًا، وكأنّه رأى بعبعًا كبيرًا. مالذي حدث؟ لقد أنجز عمله كلّه بنجاح لكن الخوف مازال بداخله. تحدثت معه مجددًا، عليه أن يواجه الخوف وأن يعرف أنّ حياته تنتظره خارج المشفى، حياته وعمله وزوجته.

أخبرني السيد سين أنّه يريد العودة إلى المنزل بأسرع وقت ممكن، أمهلته أسبوعًا أخيرًا لنكون متأكدين أنّ الخوف لن يولد في النهاية حالة ذهانيّة جديدة تهدد حياته مجددًا.

التحديّ: الفائز يصنع القهوة

تحداني سين في مساء يوم الجمعة الماضي بعد انتهاء الدوام الرسمي للعبة تنس الطاولة، والتي دار حديثنا عنها كثيرًا في المرات الماضية . اتفقنا، بما أنّ سين يحبّ صنع القهوة، أنّ الفائز سيعدّ القهوة للآخر.

النتيجة واضحة، فمستواي في هذه اللعبة يعد “تحت المبتدئ”، ربح سين ٥ مرات من أصل ٤.

شربنا القهوة معًا، ثم غادرت، متمنيًا أنّ يستطيع سين إيجاد طريقةً للتخلي عن القسم، ألّا يكون القسم “المكان الآمن”، بل مجرد مكان في الذاكرة.

مصدر الصورة البارزة: بيكسا باي