مقدمة قصيرة جدًا
بعد توقفي عن دراسة الطب في 2012 حاولت ممارسة نشاطات جديدة تلهيني قدر الإمكان عن الخسارة التي منيت، وبحثت عن أعمال لتطوير ذاتي في مجالات مختلفة. فدرّست اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم الحيوية لطلاب الصفوف الإعداديّة في الإمارات العربيّة المتحدة كمدرس خصوصي، ونشطت مُترجمًا طوعيًا في صفحات علميّة بعد نصيحة صديقي فارس شاكر، فشاركت في أنا أصدق العلم، قبل أدلجتها بشكلٍ كبير.
وكتبت وترجمت ودققت أيضًا في موقع الباحثون السوريون، وانتهت علاقتي معهم عندما قال لي مدير القسم الطبيّ حينها: “نحن الباحثون، نبحث عن المقالات لنترجمها ونقدمها للمستهلك العربي.” لا شكّ أن الترجمة وتقديم المعلومة بشكلّ بسيط وميّسر أمر لا غنى عنه، ولكن صفة “الباحث” تختلف عن صفة مقدم العلوم ومبسّطها. وتحدث الصديق د.مهند ملك عن الصفحة ومعنى التسميّة كثيرًا، وله الحق في اختيار الاسم، أمّا أن يعتقد مدير القسم الطبيّ، وهو حينها طالب في السنة الثالثة في الجامعة أنّ الباحث هو من يترجم، فهو أمر خاطئ.
وبسبب اختلافاتي الفكريّة تركت كلتا الصفحتين وبحثت عن مستقرٍ لخطيّ، ووصلت إلى ناسا بالعربي عن صديقة مشتركة ترجمت في المبادرات المذكورة أعلاه، وتعرفت في بداية المبادرة على الرائع همام بيطار. اختلفت علاقتي مع بيطار عن علاقتي بمديري المبادرتين السابقتين، فللأسف لم أتعرف على مهند إلا بعد أن غادرت مبادرته، وهو شخص ودود للغاية. همام شخص لطيف، خفيف الظل، يحب العلم ويأكل الأوراق البحثيّة والكتب و”يعافر” في الفيزياء في فرنسا. تطورت في مبادرته من مترجم إلى مدقق ومحرر بسرعة، وكنت من أوائل من شارك في موقع ناسا بالعربي عند إنشاءه.
إلى مصر
في منتصف 2013 حصلت على مقعد دراسي لأكمل شهادة البكالوريوس في الطب والجراحة في مصر، ما يعني توقفي عن العمل كمدرس خصوصي في الإمارات العربيّة المتحدة، فكان لابدّ من مصدرٍ جديد للدخل. لا أعرف كيف، ولكن أعتقد بسبب منصة Linkedin التي نشرت فيها أعمالي كمتطوع في المبادرات السابقة أعلاه، راسلتني عاملة في ShopGo، الذي يوفر إنشاء المتاجر الإلكترونيّة، وطلبت مني ترجمة مقالات من الموقع إلى اللغة العربيّة، وهكذا حصلت على أول عمل مدفوعٍ لي في مجال الترجمة.
قد يبدو ذلك متأخرًا للبعض، لكنّ فعلًا لم أجنِ أي قرش من الترجمة إلا بعد سنتين تقريبًا من ممارستها. ولكن المقالات انتهت للأسف، فبدأت البحث عن عملٍ آخر. وبوساطة المعارف المشتركة وعن طريق المشاركة في الندوات في جامعة طنطا، تعرفت على ثلةٍ من الشباب المنتجين صاحبي مشروع معرفيّ، أحدهم العزيز أحمد رسلان.
وعرض رسلان عليّ المشاركة في الكتابة في موقع إضاءات في قسم العلوم والتقنية الذي أسسه، وكان ذلك بعد عملنا معًا في موقعنا الخاص “الجوجل” لنشر أخبار شركة جوجل قبل انطلاق مدونة جوجل العربيّة. واختلف دوري هنا من الترجمة إلى كتابة المقالات لتبسيط العلوم وأخبار التقنيّة، وتعلمت الكثير من رسلان وشادي عبدالحافظ ومحمد صلاح وغيرهم من المميزين في أسلوب الكتابة وتسهيل نقل المعلومات. كتبت في إضاءات نحو 70 مقالة وشاركت في تصميم عدد من الإنفوجرافيك في مجال الفيزياء الفلكيّة وعلوم الفضاء.
فرصة جديدة
أرسل لي أحد مؤسسي “أنا أصدق العلم” رسالة على فيسبوك يدعوني فيها للعمل في الترجمة في موقع عربيّ جديد، مرصد المستقبل، بمعدل ثلاث مقالات يوميًا. وبعد أن نجحت في الاختبار المُرسل إليّ بدأت العمل معهم إلى جانب العمل مع إضاءات. وبسبب ضغط العملين والدراسة بدأت بالترجمة فور عودتي أو قبل ذهابي إلى الجامعة والمشفى، وكتبت مقالات إضاءات في العطلة، فمقال واحد من إضاءات يحتاج بحثًا وكتابة نحو خمس إلى ست ساعات تقريبًا.
بعد أسبوعين من العمل على هذا النحو، تواصل معي هاشم الغيلي، المسؤول حينها عن مرصد المستقبل. وأسرّ إليّ سعادته بعملي وجودة الترجمة التي أقدمها. وأخبرني أنّ الموقع المُسمى حينذاك “من الكوارك إلى الكوازار” سيغيّر اسمه إلى فيوتشرزم، وأنّ دبيّ تستحوذ على النسخة العربيّة ليتبع لمؤسسة جديدة، مؤسسة دبي المستقبل، وعرض عليّ هاشم الترقيّة الوظيفية لأصبح المدقق لمقالات الموقع وأساعده في إدارة النسخة العربيّة تحت إشراف المؤسسة.
وهكذا بعد أسبوعين أصبحت المدقق الرسميّ للموقع، ولأصبح نائب رئيس التحرير في النسخة العربيّة من فيوتشرزم وأعمل مع الشركة الأمريكيّة كمستقل.
توسّعت مهماتي بسرعة، من التدقيق إلى اختيار المقالات للترجمة، المناسبة للبيئة والثقافة العربيّة دون التطرق للسياسة أو المواضيع الحرجة، وهو ما فعلته. وطلب منيّ هاشم تشكيل فريق من المترجمين بالإضافة لمصمم جرافيك ومدير صفحات الموقع على اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي. وشكلت فريقًا أحسبه أفضل فريق عملت معه، بالإضافة لمصممة الفيديو راما السمكري والتي كانت بحق مبدعة وصبورة ولطيفة للغاية.
وبعد فترة قصيرة لا تتعدى عدة أشهر، أبلغني هاشم برغبته بترك الموقع للانطلاق في تشكيل علامته الشخصية الخاصة، وعرض علي فرصة منصب رئيس التحرير في الموقع.
رئيس التحرير
قابلت رئيس التحرير ومدير الموقع في الجهة الأمريكية واتفقنا على إطار عملٍ واضح ومهام غير واضحة. لم يكن لدي ساعات عمل محددة، وشملت مهامي إدارة كلّ شيء، وهو خطأ لم أفهمه ولم أستوعبه من قبل. لا بد من تحديد المُسمى الوظيفي والخطوط للالتزام بها، وعلى الأقل أيام العطل!
بدأت العمل كرئيس تحرير تحت إشراف هاشم في الأيام الأولى، ثم تابعت وحيدًا. تنوعت مهامي بين اختيار المقالات ومراجعتها وتدقيقها بعد المدقق، وانتقاء وتدقيق مقاطع الفيديو، والتواصل مع الفريق الإنجليزي وتقديم اقتراحات للمحتوى. بالإضافة إلى المهام الإدارية، كحساب دخل أفراد الفريق وإدارة عملهم والتأكد من سير كلِ شيء بانتظام. تقريبًا كنت صلة الوصل بين فريق العمل في الموقع الإنجليزي وأعضاء فريقي في مرصد المستقبل، والإدارة في دبي.
وجودك في مصر نعمة، لكن الزمن والتوقيت فيها نقمة، فهو يتأخر ساعتين عن دبي ويسبق الولايات المتحدة بعدة ساعات، فتطلب التنسيق مني التواجد بشكل مستمر على الهاتف، للتأكد من وصول المحتوى الإنجليزي في الوقت المناسب ومن ثم ترجمته ونشره على الموقع العربي.
وتعلمت استخدام الأدوات المختلفة لإدارة الفريق، فكنا نستخدم ألواح تريلو وقوائمه في تخطيط المقالات والفيديوهات والتصميمات المختلفة، بالإضافة إلى سلاك للتواصل بشكلٍ مباشر بين أعضاء الفريق العربي والأمريكي.
وداعًا فريقي
اضطررت آسفًا بعد توجيهات من الإدارة في دبي إلى التخلي فريق الترجمة بشكلٍ كامل، والتوجه لمؤسسة خاصة بالترجمة. لم أفهم السبب المباشر، ولم أستطع حماية فريق الترجمة الذي سعدت بقضاء أكثر من سنة معه. وبحثًا عن المؤسسة المثلى أجريت عدة مقابلات مع شركات مختلفة، وقدمت عروضها إلى مؤسسة دبي المستقبل والتي اختارت في النهاية إحداها. ولم تمضٍ أكثر من ستة أشهر حتى فُسخ العقد مجددًا مع الشركة بسبب خطأ جسيم.
قررت مجددًا هنا عدم التدخل في اختيار فريق للترجمة، فالمهام المختلفة والتواصل مع الجهات المختلفة يكفيني، فأخبرت فيوتشرزم برغبتي في اختيار مدير للترجمة يختار فريقه من المستقلين وهكذا كان.
للأسف لم يكن لي دور كبير في اختيار المدير، وربما كان ذلك خطوة أخرى في طريقي نحو العزل.
نهاية الطريق
أكملت العمل في الموقع، وبدأت سلسلة خاصة سُميت “بحوث المستقبل” وإن وددت تسميتها “تقنيات المستقبل”، ونشرت أجزاء منها في صحيفة البيان الإماراتية المطبوعة. وشاركت مع فريقي بتطوير التعاون بين مرصد المستقبل ومبادرات عربيّة أخرى، ووصلنا إلى أكثر من أربعة ونصف المليون متابعًا على فيسبوك وحدها، كما نشرنا أكثر من سبعة آلاف قطعة محتوى.
ورغم الإنتاج الكبير والعمل المستمر، إلا أن مهامي كانت مُكبّلة، فمرصد المستقبل يتبع نهايةً لمؤسسة حكوميّة، وتبعًا لذلك قُيّدت صلاحيتي بشكلٍ كبير، فكل حركة تحتاج إذنًا وانتظارًا قبل النشر والمراجعة. وللأسف في عام 2019 أضحى العمل روتينًا دون أي تحدٍ أو تطوّر، وحتى صفحات التواصل ركدت وتوقفت. قدمت استقالتي عددًا من المرات، والتي رُفضت بسبب عدم وجود بديل وتمديد التعاقد معي، إلى أن جاءت جامعة سينغيولاريتي، التي استحوذت على فيوتشرزم وجميع مشاريعها.
فجأة تغيّر الفريق الأمريكي، أو معظمه، وجاءت الأخبار: يحتاجون مديرًا للفريق العربي في أمريكا أو كندا. وهنا وُقعّت استقالتي السابقة بسرعةٍ كبيرة. بقيت على رأس عملي لأدرب خلفي، وأنا حزين لتركي هذا المشروع الذي رافقته منذ مقالاته الأولى للوصول إلى المقالة رقم 8000.
عُرض علي بعد خروجي من الموقع البدء في بودكاست خاص بالمؤسسة، لكني لا أملك الأدوات ولا الوقت لبودكاست خاص بمؤسسة دبي، وكما تعلمون فمقدم البودكاست الحالي هو العظيم د.قاسم.
وتختلط مشاعري هذه اللحظة عند كتابة هذه الكلمات، السعادة للمشاركة في هذه المبادرة ورفعها إلى مكانها الحالي، والحزن على وضعها الحالي وقلة نشاطها، فآخر المقالات منشور في بداية أبريل.
نقاط مختلفة وسريعة
تعلمت الكثير من التجربة السابقة، كتكوين فريق عمل وإدارته، والتواصل مع عدة فرق ومبادرات عربيّة وأجنبيّة، والتعرف على شخصيات رائعة كالدكتور نضال قسوم وهاشم الغيلي، بالإضافة للمشاركة في ترجمة وتدقيق النسخة العربية من تقرير استشرافات مستقبليّة.
وفهمت ضرورة وجود مسمى وظيفي، فاعتبارك رئيسًا للتحرير لا يعني أن تكون كل شيء، لا أحد يستطيع أن يفعل كل الوظائف المختلفة في الفريق، لن أترجم وأدقق وأصمم، مستحيل. المسمى الوظيفي مهم. المهنيّة جزء كبير ومهم، ولكن التفاهم وروح العمل الجماعي أهم بكثير برأيي. وأحد أكبر أخطائي هي خسارة فريقي وعدم إدارتي للفريق الجديد بشكلٍ مباشر. والعمل في تبسيط العلوم ممتع وتحدٍ رائع عند تواجد الجوّ المناسب.
تدوينة ممتعة، وإن كنت أنتظر مشاركتنا دروسًا أكثر من خلال تجاربك العديدة
وأنا أيضًا توقعت أن أكتب أكثر، يبدو أن لوحة مفاتيحي ويدي تحتاجان بعض التزييت