كلّ مولودٍ يحظى بوالدين اثنين، إلّا أنّ الله حباني أبوين آخرين أيضًا، جدي وجدتي اللذان لم يفارقاني إلا في غربتي الأخيرة.
أعرف لماذا أطلق أبي عليّ هذا الاسم، فهو اسم والده وهذه هي العادة، أن يحصل الحفيد الأكبر على اسم الجدّ، ولكنّي لا أعلم لماذا أطلق والد جدي هذا الاسم على ابنه.
رحلة البحث عن معنى اسمي امتدّت فترةً طويلة..حتى علمت معناه من صديق تركيّ، حيث قال لي بالإنكليزية “The Enlightened One” وقال لي صديقي الكرديّ أنّها بالفارسيّة تصبح “فرزاد” ويصبح معناها “الشخص الباهر”.
ربّما تنبّأ والده بمستقبله، فقد كان جديّ إنسانًا باهرًا على مختلف الصعد، كان رجلًا شديد الصبر، واسع الحلم، قويّ الإرادة، ولم يطلب المساعدة فيما استطاع أن يفعله من أحد.
ربّاني جديّ، حيث كنت حفيده الأول، كما لو كنت ولده، أذكر صورًا يحملني فيها بعد عودته من المدرسة التي يدرسّ بها، كان يعتبرني “ابنه السابع” أكثر من كوني حفيدًا، ولقد اعتبرته أبًا وأستاذًا ومعلمًا.
علمني جدي الحياة، والدين على حدّ سواء، فقد درس الشريعة الإسلاميّة بعد أن سافر إلى مصر وتعلّم في جامعة الأزهر. كان واسع الصدر، كثير الصبر.
علّمني جدي أنّ الدين ليس عبادات ومنهج صلاة وصيام فحسب، علمني أنّ الأخلاق دين، علمني أنّ المحبّة دين، علمني أن الرحمة حياة، علمني أن التكبر صفة الغوغاء وقليلي العلم، كثير العلم وواسع الحلم لا يتكّبر، الكِبر ليس لمخلوق، بل كلّما ازداد علم الإنسان ازداد تواضعًا.
ربّى جدي أولاده على هذه المبادئ، ونالني الحظ الوفير منها أيضًا، كان مثالًا حيًّا لكلّ شيء علّم عنه، لم يكن بوقًا يصدح بكلمات واهية، كانت كلماته أفعالًا، كانت أفعاله تجسّد روحه.
“العلم والأخلاق والعمل والسعي” هذه كانت الأشياء التي يجب على الإنسان فعلها ليكون إنسانًا جيّدًا، هذه كانت نظرته للحياة، افعل ما تراه صحيحًا واقرب للصواب حتى لو كانت النتيجة بعيدة، وحتى لو عانيت بعد تلك النتيجة وأحسست بالخسارة والفقدان، كن واثقًا أنّ عملك لن يضيع هباءًا، هذه الكلمات كان يرددها لي عندما كنت في أسوأ أحوالي، عندما كنت وحيدًا، بعيدًا عن والديّ في غربتي الأولى، كان وجوده -هو وجدتي- العامل الأكبر في مساعدتي على استعادة الأمل الذي كنت أفقده، علمني قيمة الاحترام، علمني أنّ الألم والمعاناة تصنع معدن المرء، فقد عانى هو الكثير في حياته، لكنّه لم يستسلم يومًا، ولم ينسى فضلًا لإنسان، ولم يقطع صلته بأيّ كان، حتى المسيئين له، كان رجلًا كبيرًا، كان جبلًا.
رزقني الله رؤية والدته أيضًا، برّه بها، رغم عمره الكبير، زيارته لها بشكلٍ شبه يوميّ، معاملته لإخوته الأصغر ومحبته لهم، العائلة كانت هي الأهم، هذا ما أراده جدي، العائلة تحتل الرقم واحد في حياتك.
بعد أن تقاعد من عمله كمدرّس، افتتح محلًا صغيرًا، لم يستطع جدي البقاء في البيت جالسَا، بل كان لا بدّ له من العمل. كنت أجلس معه، أذكر الإفطار معه، كأس من الشاي وقطعة من جبنة المثلثات..كان يدعني “ألّف” السندويش له أحيانًا ويهنأني على مهاراتي العالية، كنت في الثانية عشرة من عمري، أجلس عنده بعد خروجي من المدرسة..
كان يوم الحزن الكبير عندما توفّت والدته، جدتي، رأيت همًا وحزنًا كبيرين، لا يكبر المرء إلا عندما يفقد والدته أو والده..كان يومًا حزينًا لنا جميعًا، لكن جميع أولاده جاؤوا ليكونوا مع والدهم في ذلك اليوم..كانوا كلهم حاضرين يمسكون بيد والدهم، كان قويًا بهم كما كانوا أقوياء به، وكانوا بارين به، كما كان بارًا بوالدته.
كان يحملني أثناء رحلاته في سقيا الحقل الذي نملكه، وكان يعلّمني عن الكون والله والحياة والحقل..كانت دروسًا لا أنساها.
كان هو وجدتي مثالًا رائعًا عن الحبّ والعائلة، رغم عمرهما الكبير، كان يمزحان ويلعبان الشطرنج و”الزهر” سويةً  كلّ مساء، كان يقضي يومه في القراءة والكتابة. في إحدى غرف بيتنا غرفة مخصصة للكتب، تحوي أكثر من ألف كتاب، كثيرٌ منها تفتحه لتقع عيناك على أوراقٍ يفسّر فيها جدي بعض الأشياء الغامضة في الصفحات، ناقدًا بعض الأفكار، مصححًا أخرى ومقتبسًا البعض الآخر.
ازداد مرض جديّ في الفترة الأخيرة، بعد أن خرج من سوريا، وفارق العديد من أصدقائه، وكان أثر وفاة بعض بعضهم، ذو وقع كبيرٍ عليه..
كان يحدثني بشكلٍ دوري، يسألني عن الدراسة والعمل، ويدعو لي بالتوفيق والتيسيير.
عاد جديّ إلى سوريّا بعد غياب طال خمس سنين، ليلاقي عمي الذي اشتاق له هناك، ويجلس مع أحفاده الذين اشتاقوا لجدهم وعانقوه في فرح ومحبّة، خمس سنين فترةٌ طويلةٌ فعلًا.
عاد جديّ إلى هناك، إلى البلد التي درّس فيها الآلاف من الطلاب، الطلاب الذين احترموه وأحبوه، كلّما اطلّع أحدهم على اسمي “محمد فرزت” يسألني عن جدي، ويخبرني عن دروسه، عن حزمه وعلمه، عن أخلاقه وأدبه، وعن احترامهم الكبير له.
أحبّ اسمي كثيرًا، رغم أنّي لا أستحقه، أحبّه لأنّه لك يا جدي، حملته معك جنبًا إلى جنب، حملته معك يومًا بعد يوم، إلّا أنّ القدر شاء وفرّقنا منذ سنتين ونيّف..
كنت المربيّ والمدرّس والأستاذ والشيخ والإنسان، كنت كلّ ذلك جميعًا، كنت الجدّ الحنون لي ولجميع أحفادك الذين يتسابقون لتقبيل يديك والحصول على رضاك، أذكر ضحكتك الجميلة عند رؤيتك لهم، كانوا جزءًا منك، وكنت جزءًا منهم.
توفى جديّ العزيز في بلده، توفى في سوريا حيث أراد، توفى وتركنا..يقولون أنّ اليتيم هو من فقد والديه وهو صغير، ولكننا جميعًا يا جديّ، أنا وأبي وأعمامي وعوائلنا، جميعنا نألم لفقدانك، حزينون على فراقك المفاجئ.
أشعر بالألم يا جديّ، أشعر بالألم وحيدًا هنا، كم كنت أتمنى أن أراك مرةً أخيرةً وأقبل يدك الطاهرة قبل رحيلك. كم كنت أتمنى أن أسمعك تدعو لي مرةً أخيرةً وتقولي لي “يا ابني كلشي لخير، بس اعمل وادرس وتوكلّ على الله”.
جافاني النوم طيلة الأيام الثلاثة الماضية وأنا أفكّر بك، وأدعو لك وأرجو لك الرحمة والمغفرة.
لا أستطيع يا جديّ العزيز إلا أن أشكرك، على كلّ شيء، وليس لي إلّا أن أحزن لفقدانك وأرجو أن يصبرنا الله جميعًاعلى هذه الخسارة، ونشكره لأنّه وهبنا إيّاك، الأبّ والجدّ والمدرّس والمربي.
رحمك الله يا جدي..
رحمك الله….