صفعات الحياة مؤلمة للغاية

أذكر يوم بكيت وذرفت الدموع، بعد دراسة خمس سنوات في جامعة دمشق، في فترة منها كنت من الأوائل، اضطررت لمغادرة البلاد. لم أخطط لذلك، ولم أستطع حتى توديع أصدقائي. الخطة كانت سياحة لخمسة أيام، أصبحت فيما بعد تسع سنوات حتى كتابة هذه الكلمات.

حرص والدي العزيزي على الاتصال بي ودفعي إلى التفاؤل، إيقانًا منه بأنّي “مُرضي”، وأنه ووالدتي يدعوان لي، وكذلك جدي وجدتي الذان ربياني إلى جانبهما. وحينها لم أستطع سماع كلماته، عمّا يتحدث هذا الرجل؟ لمَ الأمل الكاذب وبعثه فيّ بعد أن أصبحت عودتي للطب مستحيلةً، لا أريد أن أعيد الدراسة من البداية، ولا أريد تركها. مُعلّق بين السماء والأرض، في حالٍ لا يعلمها إلا الخالق.

أنا أيضًا أعرف شعورك

بكت المريضة وصرخت في وجهي :”أنت لا تعرف كيف أشعر! لا تعرف مدى الألم الذي أحسّ به، لا تعرف ماذا يعني الاكتئاب.”

لم أجبها حينها، ولكنّي أعرف. لا أعرف إن كان من المهنيّ إخبار مرضاك بأنّك تعاني من الاكتئاب المزمن وبنوبات تأتي بين الحين والآخر. تركت الخيار الدوائي منذ سبع سنوات، لكنّي استمريّت بالبحث في المجال العلاجيّ.

كنت أود أن أصرخ لها “اعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، وحاولت الانتحار فعلًا، ولا يعرف الكثيرون ذلك. أحاول العيش رغم كلّ الألم الذي يُلمّ بي كل صباح منذ أكثر من 15 عامًا.”

لكنّي صمت حينها وهززت رأسي موافقًا، وخرجت من الغرفة.

يومًا ما، عندما أصبح جاهزًا، أو ربما عندما تنهكني الكوابيس والمزاج السيء ونوبات الاكتئاب، سأزور معالجًا نفسيًا لنتحدث معًا عن اضطراب ما بعد الصدمة وكيفية الخروج من عنق الزجاجة الضيق، بعد أن تعلق فيه عشرين عامًا.

وحتى يحين ذلك الوقت سأحاول بشتى الطرق أن أتعلم لأساعد نفسي والآخرين، وسأستخدم كلّ الطرق للوصول إلى البرّ الآمن، والذي أؤمن بوجوده، وأنّي سأصل إليه ولو طالت المسافة.

الحبّ: عاطفة لا تتحكم الإرادة بها

أذكر حبّي الأول بكلّ وضوح، وأذكر اكتئابي وصراعي بين حبّي لها واكتئابي ورغبتي في إنهاء حياتي. لم أخبرها عن حالتي أبدًا. وبعد عدة سنوات غادرت هي حياتي، وتركتني حزينًا. لم تكن الأخيرة، وفي كلّ مرة تحدث مشكلة تُنهي كل ما سبقها. حتى جاءت هي.

كُنت قد فقدت الأمل، وقررت أن أبعد فكرة الزواج عني خمس سنوات أو أكثر، ولكنّها ها هي، عزيزتي الصغيرة، احتلّت قلبي بكلّ ما فيه من ألم وأمل.

حاولت الابتعاد بدايةً، ولكنّ خيوط الحب والموّدة حالت دون ابتعادنا، وبادلتني هي المشاعر ذاتها، إن لم تَكن أكثر. حاولت إبعادها عني، وأخبرتها بسوء طباعي ومشاعري التي تختلف بين الليل والنهار ألف مرة، وأخبرتها عن عدم رغبتي في الحياة، رغم توفر مقوامتها لديّ. وأبت هي الاستسلام، وجرّتني من عتمة الليل إلى النهار.

بعد ثلاث سنوات تزوجنا، وهاهي ذكرى زواجنا الأولى تُسرع لطرق باب شقتنا. كتبت عن يمنى كثيرًا، وكتبت لها كثيرًا، ولكن لا أجد أصدق من قولي لها، أحبّك.

رضا الوالدين والعمل التطوعي

بعد خروجي من سوريا في 2012 وتركي للدراسة فقدت الأمل بشكلٍ كامل من العودة للعمل الطبي، وداعًا لأحلام دراسة علم الأعصاب والطب النفسي والعصبي. حاربت فقدان الأمل واليأس لمدة طويلة، ثم تملكني اليأس ومَلكني وأتلفت كل ما بقي لدي من الكتب الطبية. بدأت بالتطوع مع صفحات الترجمة العلمية مثل أنا أصدق العلم وناسا بالعربي، وبعدها في موقع كيف تك مع الصديق عمر بني المرجة. وبعدها جاء عرض من موقع شوب جو لترجمة محتواهم للعربية. بعد عدة سنوات عرفت أن صاحب المشروع هو مهند غشيم.

وبالإضافة للترجمة، عملت كأستاذ خصوصي للإنجليزية والعلوم لصبيّ إيرانيّ في دبي. هنا شعرت ببعض النجاح خارج الحياة الأكاديمية، فقد أدخلت عليّ الترجمة مبلغ 600 دولار، وكانت ساعتي كأستاذ تكلف 75 درهمًا حينها (2012)، وقفز معدل طالبي من 70% إلى 88% ما جعلني أقفز من السعادة عند سماع الخبر.

وبعد عودة الأمل، قررت تقديم أوراقي لمنحة الجامعة الأمريكيّة في دبي لدراسة الصحافة والإعلام، وكانت متاحة للعرب في الإمارات حينها. رأيت في الصحافة والصحافة العلمية خاصة، بسبب خلفيتي الطبيّة، طريقًا يصل بين ماضيّ وحاضري. جهزت أوراقي استعدادًا لتقديم الطلب.

قبل تقديم الطلب بيومين اتصل بي صديقي أنس، وأخبرني أنه في جامعة طنطا في مصر، ونصحني بالقدوم لأكمل الدراسة في نفس سنة الدراسيّة بعد الامتحان في بعض المواد. لم أعرف ما أصابني، تأكدت من الخبر من شخصين آخرين، فعلًا مصر سهلت عودتنا للدراسة بل وبالمجان، وقررت معاملتنا كالطلاب المصريين.

حينها دار نقاش حامٍ بيني وبين أعز أصدقائي، والذي توسلني للعودة وترك فكرة الصحافة حاليًا، والتأمل بها بعد حصولي على شهادتي الجامعية. انتهى الجدال بشجارٍ بيننا. كان يريد كل الخير لي. حتى اليوم لم أسمع صوته مجددًا منذ يومها.

عزف لي بعدها صديقي سوناتا ضوء القمر لبيتهوفين لمعرفته بأنها المفضلة لدي، وأرسلها لي. لم أجبه. أندم حتى اليوم على ذلك.

سافرت إلى مصر في الأول من مايو 2013 والتقيت بعمرو، والذي سيصبح شريك غرفتي. وفعلًا قبلتنا طنطا واضطررت لتقديم سبعة امتحانات في شهرين، بعد انقطاع سنتين كاملتين، ولكن والحمدلله نجحتها واجتزتها لأكمل الدراسة وأتخرج في نهاية 2014 وأدخل سنة الامتياز.

في هذه الفترة تذكرت كل ما قاله لي أبي، عن رضى الوالدين والتوفيق الإلهي. ولغرابة الحياة والدنيا أصبحت علاقتي بوالدي أفضل وأوثق.

وتتالت الأشياء الجميلة حينها، فعملت مع برنامج سفراء جوجل في طنطا، وقابلت مدير يوتيوب في الشرق الأوسط وعمرو سلامة وعفيفي. ثم أتاني عرض من صاحب أكبر صفحة فيسبوك علمية باعتقادي، هاشم الغيلي، للكتابة في مرصد المستقبل والذي أصبحت بعد بضعة أشهر رئيس تحريره لمدة ثلاث سنوات.

لا يمكنك إنقاذ الجميع

عملت طبيبًا في 2017، أي بعد عشر سنوات تقريبًا من بدء دراستي، وهو وقت طويل للغاية. وحين بدأت العمل كان معظم أصدقائي قد أنهوا الاختصاص الطبي، ما جعلني متأخرًا بسنتين وثلاث. دفعني ذلك إلى الاكتئاب بين الحين والآخر. قارن نفسك بما كنت عليه البارحة، أعرف ذلك. لم أطبقه.

ولكن العمل أبعد عني الاكتئاب، ومساعدة الأشخاص في المشي مجددًا بعد الإصابة بالشلل والجلطات رسم السعادة ومنحني الأمل مجددًا.

ولكن لن تمر عليك الحياة بسهولة، كل طبيب عانى من ذلك اليوم، حين توفي مريضه الأول. كانت سيدةً في الخامسة والتسعين من عمرها، أصيبت بجلطة دماغية، وبسبب الأدوية والأمراض السابقة لم يكن من الممكن إجراء تداخل طبيّ، فكان الحل هو الأسبرين الوريدي. وبحمد الله تحسنت خلال نصف ساعة وتحدثت معي وطلبت مني إخبار ابنها أنّها بخير.

حجزت غرفةً للمريضة في قسم مرضى الشيخوخة لإعادة التأهيل وتحديد سبب الجلطة بدقة أكبر. وغادرت لفحص مريضةٍ أخرى. بعد خمس دقائق صرخت ممرضة الطوارئ منادية اسمي، ركضت لأجد مريضتي متوفاة. لم تكن تلك المرة الأولى التي أرى فيها إنسانًا ميتًا، ولكني كنت مرتاعًا وخائفًا بشدة. هل كنت السبب؟ هل أخطأنا؟ ما هو الخيار الأفضل؟

كان بجانبي يومها استشاري الطب الداخلي وطب القلبية د.رودولف، والذي حاول تهدئتي وتطمين روعي.

لا يمكنك إنقاذ الجميع، ولكن يمكنك المحاولة، وقد حاولت يا بني.

وجاء بعدها استشاري العصبية د.توماس وتحدثنا مع ابن المريضة سويةً. أخبرني توماس بقصة مريضه الأول، والتعاسة التي قد تصيب الطبيب، ولكن هذا عملنا، نحن نحارب في ساحة المعركة يوميًا، ولا بدّ من الخسائر. سأتعلم حينها أنّ الخسارة لن تصبح أسهل، وأن ردة فعلي لن تتغيّر كثيرًا.

لن تعرف الشخص حتى تعاشره، أو ربما لن تعرفه أبدًا

وردت قصة عند أهل السلف، حيث قال رجل لعمر بن الخطّاب: إنّ فلانًا رجل صدق، قال: سافرت معه؟ قال لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال لا. قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال لا. قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد!.

ومغزى القصة أنّك لن تعرف الشخص حتى تعاشره. ولكن للأسف في بعض الأحيان قد تخطئ في حساباتك. عاشرت الكثير من البشر، وسكنت مع عدة أشخاص وسافرت معهم في أنحاء الدنيا بين إفريقيا وأوروبا. وتعلمت بالطريقة الصعبة أنّ من يبتسم في وجهك صباحًا قد يطعنك بخنجره مساءً.

ولا يعني ذلك أن نسيء الظن في الجميع، بل الأصل كما أرى أنّ نأمل الخير والإحسان من أخواننا في البشريّة، ولكن لا بدّ من الحذر. فالحذر واجب.

كن إنسانًا أولًا

دار نقاش بين زوجتي وصديقتها بحضوري، عن كلمة “الفخر”، كنت مع الصديقة هذه المرة. أكره الفخر وأحبّ التواضع. أرى أن التواضع هو أهم صفة يتمتع بها الطبيب. لا يريد المريض الكثير من الطبيب، يريد فقط أن يفهم ما الذي يحدث ولماذا يحدث، والاستفسار عن علاج قد ييسر أمره. أن تترك المريض ضائعًا أو تتكلم معه بعنجهية ستزيد من ألم المريض وكرهه لك، ولن يعود إليك ثانية، بل قل وداعًا للعلاقة العلاجية المثالية.

تعتني استشارية العصبيّة د.هامان بمرضاها بشكلٍ كبير، وتجلس معهم خلال القبول لساعة ونصف وأكثر أحيانًا، وبعدها تتصل بأهل المريض بعد موافقته للحصول على معلومات قد تفيدها في الوصول للتشخيص. العمل مع هامان شاق، فهي تريد المثالية دومًا، وتسعى للوصول للتشخيص من خلال القصة المرضيّة أولًا، ثم الفحص السريري ثانيًا. لم يحبّها أحد من الأطباء المقيمين سواي، المرضى؟ كانوا لا يريدون سواها.

هانفلد، استشاري النفسية، لا يكتفي بمرضى الشعبة، بل يجول في كل الأماكن للبحث عمن يمكنه مساعدته. شارك هانفلد في تأسيس رابطة ميدي نيتز، لمعالجة الأشخاص الموجودين بشكلٍ غير قانوني في ألمانيا، وأسس المركز النفسي الاجتماعي للاجئين في ولاية هيسين.

يجلس هانفلد مع المريض ويسمع له ويحدثه بتلك النبرة التي تبعث الطمأنينة. يرتدي هانفلد بنطاله الجينز وقميصًا أبيضًا ويحمل حقيبة ظهر عليها دبوس كُتب عليه “مرحبًا باللاجئين، بيوتنا مفتوحة لكم.”

هامان وهانفلد علماني في الواقع ما كتبه أوليفر ساكس. الطبيب هو قبل كل شيء إنسان أولًا.

وفي النهاية أترككم مع أوليفر ساكس وقوله:

لا نتكلم لنخبر الآخرين بما نفكر فحسب، ولكن لنُسمع أنفسنا ما نُفكر به أيضًا. الكلام جزء من التفكير

كُتبت هذه التدوينة كمشاركة في مبادرة الصديق عامر الحريري “علمتنا الحياة“.