لم تكن 2020 سهلةً علينا بالتأكيد، بدايةً من الڤيروس اللعين وحتى قرارات وإجراءات حظر التجول، والتي كانت، ومازالت، ضروريّة لإيقاف انتشار الكائن الصغير بيننا. بدأت السنة برحلتنا إلى إسبانيا والأندلس والتي استمرت نحو أسبوعين، تنقلنا فيها بين قادس وملقة وبرشلونة وفالنسيا وإشبيلية على متن باخرة عملاقة. كانت رحلةً رائعة، انقطعنا فيها عن العالم الخارجي كليًا، إلا من المحادثات التليفونيّة القصيرة مع أهلنا.

العمل في قسم الاكتئاب

وبعد عودتي إلى العمل نُقلت من قسم الفصام واضطرابات ثنائي القطب والهوس إلى قسم الاكتئاب والصدمة، وهي رغبتي منذ البداية. وبدا لي العمل في البداية أسهل، فالنقاش مع مرضى الاكتئاب كان مُمتعًا، واكتشفت فيما بعد أنّ الأمر أصعب بكثير، لكن المردود أكبر. وأعني بالمردود هنا النتيجة المُنتظرة بعد عدة أسابيع وجلسات علاج خضتها سويةً مع المرضى.

وسمح لنا استشاريّ القسم باختيار مرضانا بأنفسنا، واخترت دائمًا مرضى اضطراب ما بعد الصدمة، لشغفي بصورته المرضيّة المختلفة والتي تشمل الاكتئاب والخوف والهلع وحتى الهلوسة. والممتع في الأمر مشاهدة المريض يتحسن، أن ينتقل من مرحلة الكوابيس والأرق المُستمر إلى مرحلة “لقد نمت ثلاث ساعات يا دكتور، وهو شيء رائع!”. عالجت مرضى من إيران وتركيا وسوريا ومالي وإرتريا وألمانيا، بمعدل جلسة أسبوعيّة لكل منهم.

في بعض الأحيان تحمل معك بعض الهموم إلى المنزل، ومازلت أتعلم التفرقة بين هموم المرضى وهمومي الشخصيّة، وهو شيء صعب للغاية خاصةً عندما تتشابه قصة المريض مع قصتك.

وبعد مدة أدرت لأول مرة مجموعة الاكتئاب التعليميّة، وفيها نتحدث عن المرض وأسبابه وطرق العلاج المختلفة كالأدوية والعلاج النفسي، وأعربت لمرضاي أيضًا أني أخاف من تقديم هكذا مجموعات. يحضر فيها نحو عشرين شخصًا ألمانيًا، لأديرها أنا، المتحدث بالألمانيّة منذ ثلاثة أعوام فقط.

ولقيت كل التشجيع والمحبّة من المرضى. غريب جدًا أن ترى قدرة هؤلاء على العطاء والابتسام لك، رغم كلّ مشاكلهم.

ومن المؤلم معرفة أن معظم مرضاي يتألمون بسبب من يحبّون، سواء كانت العائلة أم الأصدقاء أم أحد آخر. كانت قصصهم مخيفة وحزينة. وفي بعض الأحيان استذكر جون كوفي في رائعة ستيفين كينج “الميل الأخضر”، حيث وصف متاعبه واختصرها بقوله: “أنا متعب للغاية من التصرفات البشعة للبشر في حق إخوتهم.”

وكطبيب أمراض عصبيّة، كان لا بدّ من ترك قسم النفسيّة مجددًا، ولو إني أفكر جديًا في العودة إليه، وحصلت على وظيفة جديدة تبدأ في الرابع من يناير في العام القادم في قسم العصبيّة مجددًا. ودعت أصدقائي ومرضاي وزملاء العمل جميعهم. وفي يوم الجمعة الأخير قبل انتهاء عملي اجتمع فريق قسم الاكتئاب وأهداني “صمديّة” توضع في السيارة، ولتمثل الثقافة الألمانية كانت كلب داشهند، وخبزت لي ممرضة كعكًا على شكل سيارات صغيرة، كوني في دورة القيادة حتى الآن!، وعلى كلّ سيارة كتبت اسم شخصٍ من القسم، وبطاقة تعبئة بنزين بخمسين يورو. هم متحمسون لشهادة القيادة أكثر مني كما يبدو. شكرتهم جميعًا وشعرت بالسعادة المفرطة وهم يصفون حزنهم لفراقي ورغبتهم في أن أبقى.

ويوم الأحد كانت المناوبة الأخيرة، حيث ودعت مرضاي وجهزت لهم خططًا علاجيّة خلال فترة غيابي. ولعَجبي واستغرابي يقول لي مريض خضع للمعالجة النفسيّة لثلاث عشرة سنة:

أعرف أنّك تريد أن تُصبح طبيب عصبيّة، لكن قدراتك العلاجيّة مميزة، فأنت من أفضل المعالجين الذين رأيتهم في حياتي.

لامسنى كلامه عميقًا، وربما كان فيه بعض الصحّة. بعد ثلاث سنوات، في 2023 ربما أعود.

وفي الساعة العاشرة مساءً يوم الأحد، اتصلت بي ممرضة القسم، فأحد المرضى يحتاجني بشكلٍ طارئ. ركضت الدرج من غرفتي في الطابق الثالث إلى الأسفل لأكتشف شيئًا مُضحكًا. اجتمع المرضى على شكل دائرة وتحدث كل منهم مدة دقيقة عني وتمنى لي الخير والسعادة في عملي الجديد، ثم قدموا لي هديّة صغيرة، دفتر وقعوا عليهم جميعًا ودمية صغيرة لبابا نويل صنعوها بأنفسهم.

وجاء الوداع الأخير في نهاية المناوبة يوم الاثنين، حيث ودعني طاقم الأطباء وأهدوني نبتةً صغيرةً ورحلةً إلى القبة السماويّة في مانهايم، سأزورها السنة القادمة بعد انتهاء الحظر. وتحدثت بعدها مع برند هانفلد، المسؤول عن قسم الاكتئاب والصدمة، الأستاذ الذي تعلمت الكثير منه خلال السنة الماضية، الذي احتضنني وقدم لي العلم والصداقة والاحترام رغم الاختلاف الكبير بيننا عمريًا ودينيًا وثقافيًا. بل ودعاني وزوجتي إلى منزله بعد عشرة أيام من دخولي المشفى!

لن أنسى هانفلد، وسأسعى قدر الإمكان للوصول إلى مكانه، القدرة على التحدث مع المرضى والشعور بمآسيهم والتعاطف مع المرضى مهما كانت خلفيتهم الثقافيّة والحضاريّة. لا زلت أذكر كيف سعى لإدخال لاجئ إلى المشفى بسبب إدمانه للمخدرات وتعرضه لصدمة كبيرة في بلده. استمرت الإجراءات نحو عدة أشهر، لكنه سعى بكل ما أوتي لمساعدة هذا الرجل، وفعل.

بيتنا الصغير

ولغرابة الأقدار احتجزنا أنا وزوجتي في سنة زواجنا الأولى بعد عودتنا من إسبانيا في شقتنا بسبب الجائحة. كانت بدايةً صعبة لشراكةٍ ستسمر طويلًا بإذن الله. هناك فارق كبير بين العلاقة قبل الزواج وبعدها، وقدرنا تفريق المهام بيننا، فهي تطبخ وأنا أجلي، أو العكس. وطي الغسيل، فهو لي قطعًا! أحب طيّ الملابس بعد غسيلها واستنشاق تلك الرائحة العطرة. تقول يمنى أنّي أطوي الغسيل كشيلدون من مسلسل بيج بانج ثيوري، ولا أعتب.

أثناء طيّ الغسيل وجلي الصحون أسمع لبودكاست أو أشاهد فيديو يوتيوب، واعتبره تدريبًا على الاسترخاء وترك ما لايلزم. في أيار من العام الماضي فاجئتني يمونتي بإقامة حفلة عيد ميلادٍ لي، بعد أنّ خفّت قوانين الحظر، ودعت قلةً من أصدقائنا في غيسين. آخ من الثلاثين يا أصدقاء! رقم ثلاثة هذا مُزعج، بلغت الثلاثين ولم أحقق شيئًا بعد. ولكني سعيد وراضٍ نوعًا ما، مادامت يُمنى بجانبي، فأنا سعيد.

وبدأنا نفرش بيتنا جزءًا تلو الآخر، غرفة الجلوس، والسجّاد والبلكونة الجميلة. كان مشروعًا مشتركًا بامتياز، وضحت فيه معالم شراكتنا، ليكون الكسلان عنوان حياتنا ورمزنا الأُسريّ. نعم، هل عوائل مسلسل صراع العروش أفضل منّا؟

وتميّز العام الماضي بالصعوبة والألم على توأم روحي، فوفاة جدتها وامتحاناتها الصعبة توالت، وحرصت أن أكون بجانبها طول الوقت لأدفعها للتمييز كما أعرفها. وبعد الامتحانات قررت أخذها إلى برلين، آه كم أكره برلين. أزور برلين مرةً كل سنتين للمشاكل الإدارية والحياتيّة، فلا أرى منها شيئًا. وقررنا بناء علاقة جديدة تصحح ما مضى مع برلين.

زرنا في برلين الأسرة التي استضافت يمنى، كما زرنا في تزيفكاو قبلها أسرتي الألمانيّة. ودخلنا بيت المُستقبل واستمتعت جدًا، بينما اكتفت يمنى بأخذ الصور. والتقينا بأصدقاء عدة هناك وقررنا العودة يوم الأحد. بدايةً توقفت القطارات وخسرنا تذكرتينا، واضطررنا لحجز سيارة للعودة إلى غيسين. في هذا اليوم بالتحديد استيقظت يمنى بسبب ألمٍ شديد أسفل الظهر، اعتقدت أن المشكلة في أسرة الفندق، ولكن لا بأس، نعود اليوم إلى البيت. وبعد وصولنا بدأت يمنى بالسعال.

هنا تملكني الخوف، كنا في برلين، وصدر اليوم بيان إعلاني عُدّت فيه برلين منطقة ساخنة بسبب كورونا. هل أصيبت يمنى بها؟ كافحت يمنى وحاربت ضد نصيحتي بالفحص، وبعد يومين عندما فقدت شمّها وذوقها، ذهبنا سوية. المفاجأة: يمنى مصابة بالكورونا وأنا لا! ولكن كوني أسكن معها، اضطررت لقضاء 10 أيام من الحجر. وأترككم هنا مع بعض ما كتبته يُمنى:

عدنا من برلين بعد قضاء ٤ أيام هناك، في يوم العودة شعرتُ بالتعب والألم الخفيف في الحنجرة، قلتُ لنفسي أنها قد تكون نزلة بردٍ خفيفة نظرًا لتبدل الجو السريع في شهر أكتوبر، لكني في مساء ذلك اليوم وبعد وصولنا إلى المنزل لم أستطع الوقوف من شدة التعب، توالت عليّ أعراض الانفلونزا حتى فقدتُ حاستيّ الشم والتذوق في اليوم الرابع منذ بداية الأعراض، قمنا أنا وفرزت في الأسبوع التالي بإجراء فحص الكورونا، لتتبين إصابتي به.. شعرت أولًا بالخوف، بالرغم من صغر سني آلمني صدري من شدة السعال، لم يكن كالسعال العادي أبدًا، أما فرزت فكانت نتيجة فحصه سلبية مما أثار استغرابنا. بقينا في الحجر الصحي لمدة ١٤ يومًا، وبصراحة كانت تلك من أجمل أيام هذه السنة! شاهدنا جميع الأفلام وطبخنا كل المأكولات الي اشتهيناها (لكنّي طبعًا لم أشعر بطعم أي مما أكلته)، ضحكنا كثيرًا، أما الضجر فلم نشعر به بالرغم من البقاء في المنزل طوال هذه المدة، لعلّها كانت الفترة الأكثر سلامًا بالنسبة لي في ٢٠٢٠..

—ىمنى بكيرة، ذكرى زواجنا الأولى

كما بدأت يمنى بودكاست خاصة بها، وسجلنا معًا حلقتين في بودكاست التجربة، إحداها عن اللغات والأخرى عن الدراسة في ألمانيا. ، وأنتجت حلقةً واحدة. لا أعرف إن كانت تريد الإكمال، لكنها تود بشدة أن نشترك معًا وننتج بودكاستنا الخاص، بمعزلٍ عن التجربة

احتفلت مع يمنى بعيد زواجنا، وشعرت للمرة الأولى أننا عائلة. فرغم معرفتنا الي طالت ست سنوات، وعلاقتنا التي امتدت بين 2017 وحتى الآن، فإن العيش تحت سقف مشترك في إطار الزواج وفرّ لنا شعور “العائلة”، وبالتأكيد ستبقى عائلتي الأولى جزءًا منيّ بينما أبني مع شريكتي لبنةً جديدةً في مجتمعنا.

وبدون يُمنى ستكون حياتي مختلفةً، ولولاها كانت 2020 سنةٍ سيئة بامتياز.

صناعة واستهلاك المحتوى

كتبت هذه السنة 56 تدوينةً بين متفرقات ومراجعات كتب وأفلام ويوميّات. وانتقلت بمساعدة أمير صباغ (مساعدة كبيرة، تعرفت فيها أكثر عليه، ونعم الصديق كان أمير) من منصة وردبرس إلى استضافتي الخاصة. لا أعرف إن كان قراري حكيمًا، ولكن أردت التجربة.

وخلال حديثي مع أمير عدنا بالزمن في الإنترنت السوريّ، وتذكرنا محمد حبش وأنس المعراوي ومنتدى مكتوب وجيران وشباب سوريا.ذكريات كثيرة.

كتبت عشرة أعداد من المتفرقات، وودت لو كتبت أكثر. أفكر في جعلها نشرةً شهريّة أو نصف شهريّة عن طريق البريد الإلكترونيّ، ما رأيكم؟

وسجلت 11 حلقةً من البودكاست، الأخيرة مع د.إسلام حسين. ويشتكي معظم الأصدقاء من طول الحلقات، ولكنّ لا يجب على المستمع الإصغاء للحلقة كلها في جلسةٍ واحدة، يمكنك تقسيمها لعدة أجزاء، كما أفعل مع بودكاست يونس أو فنجان.

سعدت بالكلام مع الضيوف، لكلّ منهم لونه الخاص، وأسعدني الحديث تحت الهواء أكثر من التسجيل نفسه. وصلت بعض المكالمات لأربع ساعات! مع الصديق طارق مثلًا والدكتورة علياء. وأنصحكم بمتابعة د.علياء ود.إسلام على تويتر خلال هذه الفترة للحصول على المعلومات من المختصين فعلًا بالرنا الميكرويّ والفيروسات. وأطلقت مؤخرًا قناة يوتيوب لبودكاست التجربة، اشتركوا!

واكتشفت العديد من البودكاست وقنوات اليوتيوب الرائعة، بالإضافة إلى المدونات العربيّة المميزة، أنصحكم بالعودة للمتفرقات السابقة للاطلاع عليها. وبالتأكيد لن أنسَ الفهرست الذي اعتمدت عليه كليًا في مراجعة المدونات العربيّة، الشكر للرائع طريف ولجهده العظيم.

خاتمة

تميّزت السنة الماضيّة بالمغامرات الشيقة، الزواج، والسفر إلى إسبانيا والأندلس، والطرد من مطار فرانكفورت ، والاستمرار في تسجيل بودكاست التجربة. ولم أستطع أن أحقق ذلك دون شكر من وقف بجانبي. وأشكر خاصةً زوجتي يُمنى، وشادي وعائشة وفهد وزينة، وأصدقاء التدوين، وكل من قبل الاستضافة على البودكاست، وكل من قرأ كلمة من كلماتي ومن ساعدني خلال هذه السنة العصيبة.

أتمنى لكم سنةً جديدةً مليئةً بالحب والإنتاج والازدهار.

صديقكم فرزت

مصدر الصورة البارزة: unsplash